مما لا شك فيه أن النتائج النهائية للتصويت علي مسودة الدستور تؤكد بأن مصر مازالت في عنق الزجاجة المضغوطة, وأنه لا خيار للجميع سوي الدخول في حوار فاعل وناجز بين شركاء الوطن. وقد يكون واهما من يعتقد أنه خرج من هذه المعركة رابحا وأن الأمور هيأت له, وأنه يستطيع أن يفرض وجهة نظره أو رأيه علي الآخرين. لقد أكدت نتائج عملية الاستفتاء رفض قطاع كبير وواسع له, حيث جاءت الإجابة بالرفض حوالي36% مقابل64% بالقبول. ومن ثم يمكن تقييم عملية الاستفتاء من خلال تقييم أطرافها, والتي تتمثل فيما يلي: أولا: الهيئة الناخبة ونسبة المشاركة, شهد حجم الهيئة الناخبة ارتفاعا كبيرا بعد الثورة, حيث بلغ من لهم حق التصويت في الاستفتاء علي الدستور51.3 ناخب, مقارنة ب31 مليونا و826 ألفا و284 ناخبا في انتخابات الرئاسة المصرية عام2005, أي بزيادة تقارب عشرين مليونا, ويرجع ذلك إلي عملية التسجيل التلقائي للمواطنين البالغين18 عاما. واللافت, أن الارتفاع الملحوظ في حجم الهيئة الناخبة لم يقابله ارتفاع في الأقبال علي صناديق الاقتراع, بالرغم من الطوابير التي رأيناها جميعا, حيث جاءت النسبة الإجمالية المشاركة, ونحن مازالنا في مرحلة ثورية مفعمة بدرجة مرتفعة من المعرفة والاهتمام بالشأن العام, حوالي34% ممن لهم حق التصويت بواقع16.5 مليون مواطن ممن لهم حق التصويت, وفي الوقت الذي وافق علي الدستور10.5 مليون ناخب رفضه5.971 مليون ناخب. ومن القرائن الأخري, التي تؤكد أن نسبة المشاركة في الاستفتاء ضئيلة للغاية نسبة المشاركة في الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي جرت مؤخرا, حيث بلغت62% و51% علي التوالي. وإذا أشرنا إلي نتيجة الاستفتاء الذي جري في18 و19 مارس2011, فإن نسبة المشاركة بلغت41% بواقع77.5% لنعم و22.5% ل لا, نجد أنفسنا بالفعل أمام عنق الزجاجة ومأزق سياسي حقيقي. ثانيا: اللجنة القضائية العليا المشرفة علي تنظيم عملية الاستفتاء, التي جاء أداؤها أضعف من المتوقع, حيث إنها لم تتعامل باحترافية شديدة مع الحدث, وقد أدي استقالة الأمين العام لها بعد الجولة الأولي إلي فتح الباب علي مصراعيه أمام الشائعات, خاصة بعد تعهده باستبعاد جميع اللجان التي أغلقت قبل الوقت المقرر. فطبقا للبيانات اللجنة فإن عدد اللجان الفرعية في المرحلتين هو13100 لجنة, وبذلك يبلغ متوسط عدد من لهم حق التصويت في كل لجنة3918 ناخبا, وإذا كان اعتبارنا أن المتوسط العالمي الذي يستغرقه الناخب للإدلاء بصوته هو5 دقائق للتصويت فإننا بحاجة إلي وقت أطول لعملية التصويت, مما كان يستوجب إجراء الاستفتاء علي يومين في كل مرحلة. وإذا كان ضم اللجان إلي بعضها البعض سبب تكدس الناخبين, فإن ذلك يرجع إلي عزوف بعض القضاة عن الإشراف, ومن ثم فإن الدرس الذي يجب أن نتعلمه جميعا هو تأسيس لجنة إدارية دائمة مستقلة تشرف علي العملية الانتخابية, خاصة أن إشراف القضاة لم يمنع المخالفات الانتخابية التي رصدتها جميع غرف المراقبة الرسمة وغيرها. كما يجب أن ننأي بالقضاء عن عمليات انتخابية يسودها من حين إلي آخر شبه عدم النزاهة والتشكيك ليس فقط في النتائج ولكن بأن القضاة ذهبوا إلي الإشراف من أجل المكآفات والحوافز المالية, مما يفقد القضاء هيبته بالفعل. ثالثا: مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب التي راقبت العملية الانتخابية, فعلي الرغم من أن الأصل في عملية المراقبة هو كشف المخالفات والتزوير فإنها انقسمت علي ذاتها, وذهب بعضها إلي عملية الاستفتاء وهي تنظر إليه بعين الشك والريبة, وأنه مزور لا محال, وذلك قبل البدء في عملية التصويت. في حين أن البعض الآخر, ذهب مؤكدا المركز القومي لحقوق الإنسان سلامة عملية التصويت, وأنه لن يحدث أي تجاوزات, وإذا حدث فإنه سيكشفه بالتأكيد. ومن ثم حدث خلط في عمل هذه المنظمات بين ما هو مدني وأصيل بعملها وما هو سياسي, حيث تبنت مواقف مسبقة, مؤيدة ورافضة, لعملية الاستفتاء, وهذا ليس دور المنظمات المجتمع المدني التي تراقب العملية الانتخابية, وهو ما يجعلها متهمة في كثير من الأوقات. رابعا: الجمعية التأسيسية, والتي قامت بإقحام نفسها في صراع سياسي مع الرافضين لمسودة الدستور بدلا من أن تقوم بالدور التوعوي المنوط بها في إعلام الناخبين بمحتوي وفحوي المواد الدستورية, وتثقيفهم وتزويدهم بالمعلومات الضرورية من خلال حملات التوعية والالتزام بمبادئ الاستقلالية والحياد والشفافية والمصداقية والكفاءة. وبغض النظر عما سبق, فإن النتائج النهائية للاستفتاء تدق ناقوس الخطر وتؤكد: أولا, أن التوافق الذي لم يحدث علي مستوي النخبة حول الدستور لم يحدث أيضا علي مستوي الناخبين, ومن ثم هناك ضرورة بالفعل إلي حوار وطني حقيقي وفاعل بين المعارضة والسلطة حول المواد التي يوجد حولها خلاف وتعديلها في أقرب وقت ممكن. ثانيا, هناك تراجع كبير في أقبال المصريين علي صناديق الاقتراع, ومن ثم اللجوء إلي صناديق الاقتراع ليس كافيا للاحتكام, وأن التوافق بات مطلبا ضروريا للخروج من الزجاجة المضغوطة, خاصة وأن الدستور الجديد سيترتب عليه إنشاء حوالي100 قانون جديد, من الممكن أن تنفجر البلد مع إصدار كل قانون. ثالثا, إن التجاوزات العديدة التي شابت العملية الانتخابية من تأخر فتح المقار والمراكز الانتخابية, والتصويت الجماعي, وتوجيه الناخبين, واستغلال الدين في عملية التصويت, هي أمور أصبحت لصيقة بكل عملية تصويتية يذهب إليها المصريون عقب اندلاع الثورة المصرية, إلا أنها لم ترق إلي تزوير العملية الانتخابية. وأخيرا, إن قوة المعارضة في توحدها وأنه لا بديل أمامها سوي إعادة تنظيم الصفوف مرة أخري من خلال هيكل تنظيمي واضح ومستقر تستطيع من خلاله أن تنجز ما تصبوا إليه ليس فقط في الانتخابات البرلمانية المقبلة ولكن في مجمل مجريات العملية السياسية المقبلة.