تؤكد حقائق التاريخ ومعطيات الواقع المعاصر, أن النظم السياسية علي اختلاف توجهاتها وإن بدرجات متفاوتة من نظام لآخر قد عملت وتعمل- علي توظيف التعليم لتحقيق سياساتها وتوجهاتها, للحفاظ علي استمرارية وجودها, والحفاظ علي كيانها, دون وجود استراتيجيات حقيقية تتميز بالثبات النسبي, وتأخذ في اعتبارها حاجات المجتمع, ومتطلبات النهوض به, وما يحدث من تغيرات وتطورات مجتمعية وعالمية, مما أدي الي اضطراب سياسات التعليم, واهتزاز بنيانه, وعدم استقراره. لا يزال التعليم يعمل من خلال محتوي ومناهج وطرائق تحول دون تحقيق المواطنة, وتكرس ثقافة حقوق الانسان, والحفاظ علي الثقافة القومية وتجانس الامة فكرا ووجدانا ومشاعر. أما عن ضعف الميزانية المخصصة للتعليم فحدث ولا حرج حيث يحتل المرتبة الدنيا عند المقارنة بالوزارات الخدمية والانتاجية والسيادية, ولا تزال الميزانية دون مستوي304% من الناتج القومي, يتم انفاق معظمها علي الاجور والمرتبات, مما يؤكد أن النظم السياسية لا تنظر للتعليم علي انه الرهان الاساسي إن لم يكن الوحيد- للنهضة والتقدم, وبناء الانسان الفاعل القادر علي المشاركة في بناء مجتمعه, وأن معيار تقدم الامم لا يقاس بما تملكه من ثروات مادية أو طبيعية, وانما بثرواتها البشرية المتعلمة, وبالانسان المبدع في كل الميادين والمجالات, وعلي كل المستويات. من اللافت للنظر والمثير للعجب أنه من النادر أن تجد التعليم علي أجندة برامج من يتنافسون من السياسيين في الانتخابات تشريعية كانت أو رئاسية, مما يؤكد قلة الاهتمام بالتعليم عند مقارنته بالانشطة الآخري سياسية كانت أو اقتصادية, أم غيرها.كما أن التعليم كان ولايزال- يعمل من خلال شخص الوزير وخاضعا لسلطاته ونفوذه, وتوجهاته, وحرصه علي ان تكون له سياسة باسمه, وقرارات تصدر عنه, مما أدي إلي عدم استقرار سياسات التعليم, التي تفرض طبيعة الاستقرار-والتأني في اتخاذ القرار. وقد كان من المأمول بعد قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير حدوث تغيرات وتطورات بنيوية في التعليم, ووضع استراتيجية مستقبلية تكون علي مستوي تطلعات وطموحات الثورة إلا أن هذا لم يحدث, أما ما حدث فينذر بمستقبل محفوف بالمخاطر للتعليم المصري ؟ حيث إن التعليم بات يعاني من: أولا- اختراق واضح من جانب بعض التوجهات الأيديولوجية, سياسة وإدارة, مناهج وطرائق, علاقات وتفاعلات داخل المؤسسات التعليمية, بل العمل من خلال ما يطلقون عليه: الضوابط الشرعية ومحاولة فرضها علي الصغار من التلاميذ والتلميذات, والمطالبة بمنع الاختلاط بين الطلبة والطالبات, المعلمين والمعلمات في المدارس والجامعات. ثانيا- التوسع في المدارس الدينية, وايضا المدارس التجريبية ذات المصروفات العالية, والتي لا يستطيع الالتحاق بها ابناء الفقراء, بل التوجه الي انشاء فصل تجريبي داخل كل مدرسة حكومية. والتوجه إلي اسناد المشروعات الجامعية لشركات قابضة, وتحويل الساعات المعتمدة لهذه الشركات. ثالثا- وجود العديد من الثغرات في النصوص المتعلقة بالتعليم في الدستور المقرر التصويت عليه قريبا, وفي القلب من هذه الثغرات:- اخضاع جميع المؤسسات التعليمية لما يطلق عليها خطة الدولة, بدلا من اخضاعها لخطط تنمية المشاريع القومية. نريد تعليما محايدا مدنيا عصريا, قادرا علي بناء الانسان المصري, ونهضة المجتمع وتقدمه, وعلي مواجهة تحديات المستقبل, والتعامل مع انجازات العصر في كل الميادين والمجالات. باختصار: نريد تعليما يليق بمصر: التاريخ والحضارة والريادة. وكفي هذا مبررا. المزيد من مقالات د. محمد سكران