انتابت إحدي صديقات الطفولة حالة من السادية فأخذت تذكرني بمواقف وقصص مؤلمة في المدرسة والحمد لله علي نعمة النسيان التي تمكنا من اتباع قولة السلف. كل مقاتك وانس مافاتك فلم أتذكر منها شيئا مؤثرا, ولكن هناك موقفا لا أستطيع نسيانه. يستحق الذكر لأهميته. لأن هناك مواد دراسية سهلة, وشيقة أيضا في دراستها, ومفرحة جدا في نتائجها, التي دائما ما تكون نهائية, ولكن العذاب الشديد الذي كان ينتابنيكان عن غموض فائدة هذه المواد أصلا, وما الحكمة من دراستها, وما فائدتها في حياتنا العملية, وأتذكر منها مادة التفاضل والتكامل علي سبيل المثال لا الحصر. كأن هناك درس ناقصا ليشرح ليس فقط تطبيقات المواد الدراسية في الحياة العملية, ولكن الحكمة والمغزي والمعني الذي أضافها هذا العلم لمعرفتنا بالحياة, وكيفية الاسترشاد بالمنهج والطريقة التي تواصلنا بها لاكتشاف جوانب هذا العلم الغامضة, في أمور حياتنا الأخري, وليس في مجال هذا العلم ومحدوديته فقط, باختصار القيمة الأخلاقية الجديدة التي أضافها هذا العلم لتفكيرنا لنميز بين الخطأ والصواب والخير والشر وقيم الحياة كلها. كنت أشعر أن هناك درسا ناقصا يقف وراء كمية المعلومات والحقائق التي ندرسها, بلا رابط فكري وثقافي بينها, وذلك هو الغرض الأصلي للعملية التعليمية, بأن تبني عقولا قادرة علي التفكير العلمي المنظم للوصول للمعرفة, والدرس الناقص يضع أقدام الطلبة علي الغرض الأساسي لدراسة المقررات الدراسية, وهو فن التفكير وأصوله من خلال كل موضوع يكتشفونه في كل حصة مع أستاذهم, لتبني عقولا قادرة علي اكتساب القدرات والمعارف, وشخصيات قادرة علي التمييز, بناء علي ما تعلموه من مواد علمية لا تقبل الفروض إلا ببراهين عقلانية منطقية. التلقين الآلي للمعلومات أهدر القيمة الحقيقة للعلم, أي انفتاح العقل للوصول للمعرفة الحقيقية, باستخدام المنهج العلمي وطرق الاستنتاج والاستدلال التي تستخدم في فروع العلم المختلفة. لتشكيل العقول وتكوين الخبرات من خلال العملية التعليمية داخل الفصل وخارجه أيضا, كل اكتشاف علمي يصب في حرية الإنسان, لأنه يكشف جوانب الفطرة السليمة الطبيعية, التي قد يعيشها الإنسان بعفوية, بينما المتعلم يعيشها بوعي بطبيعتها المنطقية والهيكلية. ويؤثر تطور العلوم علي التفكير والنظرة للحياة, فكل تطور علمي مرتبط ارتباطا مباشرا بتطور التفكير وتعديله وتغييره, وهذا هو الدرس الناقص الذي لا تغني عنه تلال المعلومات والمسائل التي قد تعطينا أعلي الشهادات, ولكنها لا تمنع من الانسحاق والاستلاب الفكري, مادمنا أخذنا العلم دون فلسفته وحكمته ورؤيته للحياة! وهذا سر التطرف الجاهل الحاصل أمامنا حبا وكرها لخلل المعيار الذي يضبط كلاهما! هذا اعتقادي لتفسير ما يؤرق ابني الغالي محمد عيسي الذي يتساءل ويتعجب, بل ويعذبه أن يري نوابغ في الطب والهندسة وغيرهما, ولكنها تسلم عقلها للجهل التام, وتنسحق أمام أفكار التخلف والجمود, أو شخصيات راسبوتينية تافهة! تبني أفكار غير عقلانية لمدة طويلة, والاستسلام للغرائز الإنسانية, والحماس العبثي لاتجاهات تنتمي الماضي الذي أنتجها, وكانت طبيعية في زمانها, تؤدي لتشوه في الإدراك, وخلل في معيارية الأمور الحياتية العامة, فيكون ذلك الإنسان المتعلم كميا لا كيفيا, أخطر من الإنسان البسيط, الذي يستخدم ما وهبه الله من منطق, فيتعلم الأسلوب الأمثل في التفكير, بينما يعجز صاحب الشهادات عن التفكير العلمي الغائب لغروره الكاذب, فيتمسك برؤاه المتخلفة في حضور للجهل التام, عندما تأخذه العزة بالإثم حفاظا علي كبريائه وتكبره.. وفي الجهل قبل الموت, موت لأهله.. وآجالهم قبل القبور قبور, وكل امرئ لم يحي بالعلم ميت.. وليس له يوم النشور نشور! المزيد من مقالات وفاء محمود