كم من مليارات أنفقتها الدولة علي تطوير التعليم ؟! وكم من توصيات خرجت من الخبراء إلي المسئولين لتحديث المناهج ولم يلتفت إليها أحد من المسئولين؟! والنتيجة أن اسلوب التعليم لا يزال يعتمد بشكل أساسي علي التلقين والحفظ علي مدي عقود طويلة. كما أن مناهجنا بشهادة الخبراء لم تنجح في تنمية مهارات التحليل, والاكتشاف لدي المتعلمين, ولا تشجعهم علي الابداع, إلي جانب حشوالمناهج بمواد لا تفيد المتعلمين, فضلا عن عدم مواكبة المناهج للتكنولوجيا الحديثة, وغياب الوسائل التعليميةالمساعدة, والاستخدام المحدود للتكنولوجيا الحديثة في التعليم, إلي جانببعد المناهج الدراسية عن المجتمع المحيطبالمتعلم, واعتبار الاختبارات التحريرية هي المصدر الوحيدلقياس التحصيل وكأن اجتياز الاختبارات هو الغاية الوحيدة من العملية التعليمية!! وعند النظر إلي المناهج في مصر ستجد أنها تنتمي إلي تلك النوعية من المناهج القائمة علي المعرفة, وهي مكدسة بالحقائق, والمعلومات, والمعارف, وهذه النوعية من المناهج تهدف في الأساس إلي إعطاء المتعلم أكبر قدر من المعلومات علي اعتبار أنها نابعة من الفلسفة التقليدية للتربية. ومن ثم أصبحت عقول المتعلمين كالأرشيف الممتلئ بالمعلومات, والمعارف, لكنها لا تتيح القدر المطلوب من التحليل والتركيب والاكتشاف وطرح حلول للمشكلات, وهي أهداف يجب أن تكون حاضرة بقوة في العملية التعليمية.. هكذا قال لي الدكتور محمد المفتي أستاذ المناهج بكلية التربية جامعة عين شمس, مشيرا إلي أن الأمانة العلمية تقتضي ذكر أن عمليات تطوير قد حدثت في العملية التعليمية علي مدي سنوات طويلة, بينما لم تتغير محتويات المناهج, بل ظلت تركز علي المعلومات والمعارف, فأصبحت مكتظة بها, بينما لم تتغير طريقة معالجتها, في حين تعتمد الدول المتقدمة علي نوعية أخري من المناهج القائمة علي حل المشكلات, والمفاهيم الكبري للعلم, والمناهج القائمة علي نتائج أبحاث المخ, ودراسة البيئة المحيطة, بينما ما زلنا نحن نركز علي المناهج القائمة علي المعرفة, والتي يصعب معها تنمية تفكير المتعلم, مما يحد من قدرته علي طرح حلول للمشكلات, ولا إدارة الأزمات, أو مواجهة التغيرات الحادثة من حوله, سواء في بيئته أو مجتمعه أو العالم من حوله, وفي المقابل نجد نظم التعليم في الدول الأخري مفجرة للمواهب, والإبداعات, وبالتالي يظهر فيها المبتكر, والمخترع, والمكتشف, في حين تظهر لدينا هذه النوعية بقدر ضئيل أو محدود للغاية. سألته: لماذا لا تقدمون مقترحاتكم لتطوير المناهج إلي وزارة التربية والتعليم؟ د. المفتي: كثيرا ما تقدمنا بمقترحات للتطوير, وكانت وزارة التربية والتعليم تستمع في عهد كثير من الوزراء السابقين- إليها, لكن لم تكن هناك إرادة للأخذ بها وتفعيلها, لكنهم كانوا يتذرعون دائما بنقص التمويل المالي, وضعف الميزانية, لكننا كنا ننصح, ونقدم المقترحات, لكن الوزارة تنفذ ما تراه في النهاية في ضوء الميزانية المتاحة, كما أن العقليات التقليدية تقف حائلا أمام أي تجديد علي اعتبار أن هذا التطوير قد يهدد مواقعها.. باختصار لم تكن هناك إرادة حقيقية وصادقة لتطوير المناهج, وكأنه كانت هناك رغبة من النظام السابق في قتل روح التفكير والإبداع في العملية التعليمية. ولأن ما لايدرك كله لا يترك كله كما يقولون- والكلام مازال للدكتور المفتي- فإنه يمكن البدء بتطوير المناهج في عينة من المدارس, وتعميمها بالتدريج, لان المناهج الحالية والقائمة علي أساس المعرفة لم تعد مسايرة لعصر التقدم العلمي والتكنولوجي, وإذا أردنا تطويرا حقيقيا في التعليم فعلينا أن ننظر علي العلمية التعليمية نظرة شاملة, تقوم علي البدء في تطوير محتوي المناهج, والمبني المدرسي الذي يستوعب المناهج المطورة, وتحسين قدرات المعلمين. البيئة الصديقة للتعليم المناهج المقررة علي الطلاب كما يقول الدكتور سعيد إسماعيل علي الخبير التربوي والتعليمي يضعها أساتذة متخصصون من كليات التربية ووزارة التربية والتعليم, بما يراعي الاحتياجات الخاصة للطلاب, وما يتماشي مع ما تقول به العلوم التربوية النفسية, والمشكلة لا تقف عند حد المناهج جيدة أم غير جيدة؟.. ملائمة أم غير ملائمة؟.. ولكن هناك ظروفا قد تؤدي إلي تحويل المناهج الجيدة إلي شيء غير نافع, ومن ثم لابد من توفير البيئة الصديقة بمعني ضرورة توافر العوامل والظروف المحيطة بالعملية التعليمية, مثل تخفيض كثافة الطلاب بالفصول, وتحسين الأوضاع المادية للمعلمين الذين نراهم الآن يطالبون بما لا طاقة للدولة به نتيجة تراكم مشاكلهم لسنوات طويلة.. ولا شك أن الفجوة بين الأجر المدفوع للمعلمين, والجهد المطلوب منهم, يقلل من الأداء أو يبطئ منه, مشيرا إلي أن المدارس تحتاج علي الكثير من الإمكانات, والأدوات, والوسائل التعليمية التي يجب توفيرها للنهوض بالعملية التعليمية, أما نظم الامتحانات فهي تسير علي أساس حصول الطالب علي أعلي الدرجات بغض النظر عن مستواهم العلمي, مما يدفعه للتكالب علي الدروس الخصوصية, ومن ثم فإن كل هذه الظروف المحيطة بالعملية التعليمية تجعل أفضل المناهج بلا فائدة, ذلك أن الأدوات, والبيئة المحيطة بها ليست مساعدة. فلترة المناهج يتفق معه الدكتور فاروق إسماعيل رئيس لجنة التعليم في مجلس الشوري السابق, مشيرا إلي أن المناهج الدراسية ضخمة, ولا يحتاج الطالب إلا إلي60% منها, وفي حالة تركيزها سيكون الطلاب في وضع أفضل, كما ستكون استفادتهم أكبر, وسيتمكنون من ممارسة النشاط الطلابي الذي لا يقل أهمية في رأيي عن البرامج التعليمية, لأننا بذلك سوف ننمي مهاراته, ومواهبه الخاصة, فالتعليم في مصر متخلف كثيرا, كما أن المناهج لا تتطور بحيث انها لا تسمح للطالب بالمشاركة والمحاورة داخل الفصول, مما يجعله مجرد متلقي للمعلومات, فيحفظها فقط دون فهمها, للحصول علي مجموع مرتفع, والقضية أننا نثقل كاهل الطالب بمناهج لا طائل منها, ولا يحتاج إليها, الأمر الذي يعكس غياب الرؤية لدي مخططي البرامج التعليمية حول ما هو مهم, وما هو أقل أهمية في المناهج الدراسية, وما هي الموضوعات التي أصبحت خارج التاريخ, ولا يستفيد منها الطالب والمجتمع, ومن ثم فإن المناهج التعليمية بحاجة ملحة علي إعادة هيكلة, ومعها معلمون علي درجة عالية من الحرفية, وقادرون علي نقل وتوصيل المعلومة للطالب بسهولة ويسر, وبما يسمح للطالب بمناقشة معلميه. وإذا كنا نتحدث عن ضرورة فلترة المناهج, لأنها لا تشجع علي الإبداع, ولا أعتقد أنها تؤدي إلي خريج مبدع ومتميز, ويجب استبعاد الغث منها, وحين نطالب بذلك فنحن لا نعيد اختراع العجلة, وعلينا أن ننظر لتجارب الدول التي تقدمت بسبب النهوض بالتعليم مثل دول النمور الآسيوية, وعلينا الاستفادة من نظم التعليم في هذه الدول كاليابان, وسنغافورة, وكوريا الجنوبية, وماليزيا, وتركيا, مثلما استفدنا من تجربة فرنسا في جامعة السوربون عند إنشاء جامعة القاهرة, فلم يعد لدينا وقت, وعلينا أن نبدأ من الآن في إطلاق مشروع لإعادة تحديث المناهج والمقررات الدراسية خلال عامين, إذا كنا جادين في تحقيق نهضة حقيقية وشاملة لمصر. التجربة الأمريكية وبينما يعتمد التعليم المصري علي مناهج تركز علي الحفظ والتلقين, نجد الدول المتقدمة في العالم, تتبع وسائل حديثة, وتعمل علي تطوير التعليم باستمرار ليكون مواكبا لمسيرات التطور العلمي, فالولاياتالمتحدة اكتشفت منذ سنوات أن نظام التعليم في اليابان, وكوريا الجنوبية يتفوق علي نظامها التعليمي, فأقامت مؤتمرا موسعا شارك فيه كبار رجال الدولة والشخصيات العامة والمؤثرة في المجتمع الأمريكي تحت عنوان أمة في خطر أيضا وهو نفس اسم التقرير الذي صدر في عام1983; ويحذر من أن خريجي الجامعات في اليابان وكوريا الجنوبية سيتفوقون علي نظرائهم في أمريكا; ومن ثم فإن الولاياتالمتحدة تعتقد أنها ستكون في خطر بعد عشر سنوات أو عشرين سنة قادمة, فسارعت بتطوير نظامها التعليمي. مشاكل بالجملة وتعاني العملية التعليمية من مشكلات عديدة ومتشابكة منها, اعتماد التعليم بشكل أساسي علي التلقين والحفظ دون فهم, إلي جانب عدم استعمال طرق التدريس الحديثة, حشوالمناهج بما لايفيد المتعلمين, وعدم مواكبة المناهج للتكنولوجيا الحديثة, وغياب الوسائل التعليميةالمساعدة, والاستخدام المحدود للتكنولوجيا الحديثة مثل الحاسوب والإنترنت, وبعد المناهج الدراسية عن المجتمع المحيطبالمتعلم, واعتبار الاختبارات التحريرية هي المصدر الوحيدلقياس التحصيل وكأن اجتياز الاختبارات هو الغاية الوحيدة من العلمية التعليمية, ناهيك عن مشكلات خاصة بالمعلمين منها أن بعضهم ليسوا مؤهلين للعمل, كما أن تدني مرتباتهم يدفعهم إلي إهمال التعليم في المدارس, وعدم بذل الجهد المطلوب لتوصيل المعلومات للطلاب, ومن ثم يتجهون نحو الدروس الخصوصية لتحسين أوضاعهم المادية, كما أنه لم يتم توفير برامج التدريب الكافية للمعلمين للتعرف علي أحدث طرق التدريس, و الوسائل الحديثة في مجال التعليم, ولم يتدربوا علي كيفية جذب انتباه واهتمامالمتعلمين, وترغيبهم في الدراسة. شركات عالمية متخصصة وبشكل عام, فإن الدكتور سامي نصار العميد السابق لمعهد الدراسات التربوية في جامعة القاهرة يري أن المناهج المصرية في التعليم مختلفة إلي حد كبير عما يجري حولنا من تطور في هذا المجال, حيث يتناول محتواها تاريخ العلم وليس العلم ذاته, مشيرا إلي أن وسيلة تقديم وتوصيل المحتوي للطلاب تتم من خلال الكتاب المدرسي الذي يتم إعداده بشكل سيئ, فهو لا يتيح للطالب التفكير, والانتقاد, والاستخلاص, وإنما يدفع الطالب إلي الحفظ, والتدرب علي أسئلة الامتحانات للنجاح, بينما يوجد في الدول المتقدمة ما يسميTEXTBOOK, وهناك تعمل مجموعة من المتخصصين والخبراء في إعداد المناهج علي وضع المحتوي العلمي للمادة الدراسية, بحيث تتناول عدة موضوعات, ولا يشترط أن يتم الانتهاء من الكتاب في نفس العام الدراسي, بل يتم تدريسه في أعوام أخري, وهنا يتم التركيز علي الكيف وليس الكم, وفي الخارج ليس من الضروري أن تقوم وزارة التربية والتعليم بإعداد المناهج, بل تقوم بهذه المهمة شركات عالمية متخصصة, وبعد انتهائها من إعداد الكتب, يتم عرضها علي الوزارة لشراء الذي تحتاجه منها, وفي المدارس الدولية يتسلم الطالب الكتاب المدرسي ثم يعيده إلي المدرسة مرة أخري. ويمكننا في مصر كما يقول العميد السابق لمعهد الدراسات التربوية في جامعة القاهرة الوصول إلي هذه المرحلة, فدول عربية مثل الكويت تتعاقد مع شركات عالمية متخصصة في إعداد المناهج والمقررات الدراسية, وليس معني الاستعانة بشركات عالمية متخصصة في إعداد المناهج, أن يتم استبعاد وزارة التربية والتعليم من التدخل فيها, إذ يمكنها رسم السياسات العامة للمناهج, أو تحديد محتواها العام, بينما عليها أن تترك الحرية للمؤلف في تناول المنهج بالطريقة التربوية المناسبة التي ترضي عنها الوزارة. حلول مطروحة وإذا كانت هناك نية صادقة في تطوير التعليم في مصر, فإنه يتوجب علينا الابتعاد عن أسلوب الحفظ والتلقين, وتطوير المناهج باستمرار وفقا للمستجداتالتكنولوجية وربطها بالبيئة المحيطة بالمتعلم, وإتباع طرقالتدريس الحديثة, واستخدام الوسائل التعليمية المناسبة, والاهتمام بتدريب الطلاب علي التفكير العلمي, وكيفية البحث عن حلول غير تقليدية وعلمية لحلالمشكلات, والبحث عن طرق متعددة لقياس مستوي الفهم والتحصيل وعدم الاكتفاء بالأسئلة التحريرية فقط بل يمكناستخدام الأسئلة الشفوية والتجارب العملية, فضلا عن الاستخدامالهادف للتكنولوجيا الحديثة كالانترنت في التعليم, فضلا عن ضرورة تحسين الأوضاع المادية للمعلمين, وتأهيلهم, وتدريبهم بما يمكنهم من اتباع الوسائل الحديثة في التعليم. http://[email protected]