أتناول اليوم أحد عناصر وقفتي الموضوعية مع رفاق الوطن من الإخوان المسلمين التي فرضتها تطورات خطيرة استشعرتها منذ أسابيع ثمانية مواصلا تلك السلسلة التي تأخذ كل يوم شكلا جديدا. وتكتظ أجندتها بتطورات مدهشة وأليمة.. وأكمل هنا ما كنت قد بدأت. ثامنا: علي حواف وتخوم الساحة السياسية, وكل ما تفور به الآن, تتداول دوائر السلطة ملف( الإعلام), باعتباره عاملا يسهم بقوة في تأزيم الوضع, وتوسيع الفجوة بين الحكم والقوي الوطنية, لا بل والجمهور علي أوسع نطاقاته. والحقيقة أن طرح القضية علي ذلك النحو الذي تتبناه أغلبية من قوي السلطة والدوائر المتصلة بها( حزبيا وتنظيميا), يحتاج إلي الكثير من المراجعة للأسباب التالية: (1) الإعلام في اللحظة الراهنة لا يعني المتابعة الإخبارية فحسب, وإنما هو ساحة أساسية من ساحات الرأي, وبالتالي, فإن كان الالتزام المهني والأخلاقي يمنع القائم بالاتصال من الانتقائية وخلط الرأي بالمعلومات في الحالة الأولي( الإخبارية), فإن ذات الالتزام المهني يفرض علي القائم بالاتصال أن تكون له وجهة نظر يعبر عنها في الحالة الثانية( الرأي), إذ يصعب كثيرا علي الإعلامي( خاصة إذا كان صاحب اتجاه وله مراكمات مواقف وسوابق أفكار افصح عنها), أن يلتزم مطلق الحياد, وإلا بدا مجرد حامل إناء يتلقي فيه آراء ضيوفه من دون نقاش, أو تبادلية رأي لابد منها, لأنها تلبي احتياج الناس, حتي لو اضطر الإعلامي أحيانا أن يكون محاميا للشيطانDevil-Advocate أو يغير مواقعه السياسية أمام ضيوفه لكي يكون هناك( حوار).. أكرر( حوار).. ونعلم جميعا أن الإخوان المسلمين هم الفصيل السياسي الأكثر ظهورا علي جميع شاشات التليفزيون الآن, ومن ثم, لا معني لمحاولة البعض إسكات الإعلاميين, لأنهم لا يوافقون علي آراء أولئك الإخوان, إلا إذا كان الغرض هو أن تصبح القنوات التجارية( الخاصة) ساحة للرأي الواحد كما التليفزيون الحكومي( الرسمي), وهو ما يمثل حالة غير صحية أو مهنية بالمرة.. وأزعم أن تكرار وتعود الظهور التليفزيوني للإخوان قدم لنا بعض كوادرهم التي صارت مدربة إعلاميا, ربما أذكر منهم دينا زكريا, ود. مراد علي, اللذين لفتا نظري من حيث القدرة علي الجدل المهذب والعرض, وكذلك قبول فكرة أن يصبح كل منهما طرفا في نقاش وقطبا في حوار. ولكن ذلك لا تتسم به الأغلبية من رموز الإخوان وبالذات القيادات السياسية والحزبية التقليدية والتي مع إحساسها الخارق بالنجومية صارت تدخل إلي ساحات الإعلام في إملائية غامرة, ترفض الرأي الآخر وتكاد تمارس إرهابا( علي الهواء) ضد الإعلاميين, بادئة أي حديث باتهام المذيع بالانحياز, أو متنبئة في حركة ابتزاز مكشوف بأنه لن يعطيها وقتا أو فرصة.. الواضح أن مثل تلك القيادات باتت تتبني مفهوما سلطويا للإعلام بمجرد أن وطأت أقدامها ساحة الحكم أو جاورتها, وهو المفهوم الذي يعني بقول واحد إطاحة التعددية وتكريس الاستفراد والاستحواذ.. وما أدهش الإعلاميين في القنوات الخاصة أنهم جميعا رصدوا تغييرا نفسيا كاسحا في خطاب وأداء كوادر الإخوان الذين كانوا يظهرون في شكل ليبرالي ومتوازن قبل يناير1102, وقتما كان أولئك الإعلاميون أنفسهم في قنواتهم الخاصة يستضيفونهم ويتيحون لهم فرص الظهور والتعبير عن الرأي, ولكنهم فجأة بعد يناير تحولوا إلي( طبقة حاكمة) بدلا من( زمرة سياسية أو حزب سياسي), وكان ذلك الإحساس الغامر بالتسيد هو سبب أساسي فيما أتصور لرفضهم أية معارضة إعلامية إذا جاز التعبير, لا بل وتطور الأمر إلي توجيه اتهامات إلي أولئك الإعلاميين( من نفس نوع ما يوصم به الإعلام الحر في النظم السلطوية) مثل كونهم طرفا في مؤامرة محلية أو إقليمية, أو أنهم ينفذون مخططا شريرا وممولا ضد السلطة. (2) أكثر الإخوان من التلميح والتصريح حول ملكية رجال أعمال ينتمون إلي النظام السابق لوسائل الإعلام الخاصة واصفيهم بالفلول( نفس اللفظ الأكثر جهلا وانحطاطا في تاريخنا السياسي المعاصر), وأنهم يوجهون القائمين بالاتصال أو المذيعين( الفلول كذلك), إلي الهجوم علي سلطة الإخوان انتصارا لذلك النظام السابق.. والقصة علي ذلك النحو سخيفة بما لا يقاس, إذ اشتغل رجال الأعمال في ظل النظام السابق وتلك ليست تهمة وأنشأوا وسائل إعلام( مقروءة ومبثوثة), وتلك كذلك ليست تهمة, وكانت لتلك القنوات أو الصحف التي أنشأها رجال الأعمال( سياسة), وهذه ليست خطيئة, والتزم المذيعون والإعلاميون والصحفيون بتلك السياسة, وهذا ليس عيبا. ينبغي أن نكف إذن عن فكرة التلويح بتهم تنتظر الإعلاميين ورجال الأعمال أصحاب وسائل الاتصال.. فإن ارتكب أحدهم فعلا مؤثما في القانون, يتوجب الاشتباك القانوني معه, أما هكذا وبذلك الوعيد المتصل والذي يوحي بتكييف أو تقييف تهمة لأي إعلام يخالف السلطة بمالكيه ومهنييه, فإن ذلك لا يليق.. الإعلام المعارض والإعلاميون الذين يهاجمون السلطة, ينبغي أن يصيروا وردة في عروة سترة النظام يتباهي بها ويتيه أمام العالم كله, لا أن تصبح وسائل الإعلام الخاصة مستهدفة من تظاهرات مخيفة, أو يصير الإعلاميون حبيسي مقار القنوات, بينما أنصار السلطة يتقدمون في صفوف متراصة صائحين: إلي الاستديوهات ساحة الوغي الجديدة التي يواجه فيها حاملو لواقط الصوت والأقلام, كل تلك الهراوات والسيوف.. أقول ذلك وقد كنت واحدا من أصحاب أعنف القراءات النقدية للإعلام الخاص ومالكيه قبل يناير وبعده, ولكنني فعلت من منطلق حيثية مهنية تحصلتها عبر ثمانية وثلاثين عاما من العمل الصحفي والإعلامي( أكاديميا وعمليا), أما أن تكون الحيثية سلطوية عمادها الضيق بالحرية أو نزوات السيطرةControl-Friks فهو أمر تتضرر منه الحالة الإعلامية والديمقراطية, وسوف يكون واجبنا كمهنيين أن نحمي الإعلام والصحافة عبر مؤسسات وأجهزة مهنية, إذ أنني كنت دائما أري أنه حتي الإسراف في استخدام القانون يفضي بنا إلي وضع تضييق علي الإعلام.. الإعلام لا ينبغي خضوعه لبطش السلطة أو غوغائية الشارع, وإنما لأجهزة مهنية من طراز المجلس الأعلي للصحافة, أو ما نادت به مجموعة عمل برئاسة د. حسن عماد, عميد كلية الإعلام, بدعم من اليونسكو من صوغ آلية مستقلة للتنظيم الذاتي لوسائط الإعلام. أنا كذلك واحد ممن نادوا طويلا باحترام المقام الرفيع لرئيس الجمهورية, ولكن هذا يعبر عن رأيي الشخصي غير الملزم لأحد.. والدكتور الرئيس عاش ردحا من الزمن في الولاياتالمتحدة, وهو يعرف أكثر من كل أنصاره كيف يسمح المجتمع الديمقراطي بالهجوم علي كل مؤسسات الحكم ومسئوليه, وكيف تضحك منهم برامج الكارتون ورسوم الكاريكاتير وكتيبات الرسوم الساخرةComic-Strips ومن ثم, يجب أن يكون الأكثر قبولا لضريبة الحرية.. وسوف أواصل الكتابة عن الأكواد الأخلاقية والوطنية التي ينبغي للإعلام التزامها. المزيد من مقالات د. عمرو عبد السميع