البابا تواضروس الثاني يؤسس الأمانة العامة للمؤسسات التعليمية القبطية    وزير الصناعة يلتقي وزير البنية التحتية والنقل بجمهورية السودان لبحث سبل تعزيز التعاون    وزارة الطيران المدني تنفي طرح أي حصص للمساهمة من جانب البنوك أو شركات الاستثمار السياحي    حماس تدعو ضامني اتفاق غزة للتحرك العاجل لإيصال المساعدات إلى القطاع    وزير الخارجية المصري والسعودي يؤكدان عمق العلاقات الأخوية والتنسيق المشترك في القضايا الإقليمية    البريكان يقود هجوم منتخب السعودية ضد ساحل العاج وديا    انسحاب الطيران بعد «دستة أهداف».. الأهلي يحسم الفوز إداريًا في دوري الكرة النسائية    الداخلية تكشف حقيقة تلقي أحد الأشخاص رسائل تهديد من ضباط شرطة| فيديو    ضبط 100 طن أسمدة وأعلاف مغشوشة داخل مصنع بدون ترخيص بالقليوبية    السفارة المصرية في روما تنظم احتفالية ترويجية للمتحف المصري الكبير    الأهلي يتوج ببطولة السوبر المصري لكرة اليد بعد الفوز على سموحة    قيادي ب«فتح»: يجب احترام الشرعية الفلسطينية بعد الاتفاق على قوة دولية مؤقتة    محافظ المنيا يبحث مع وفد الإصلاح الزراعي خطة تطوير المشروعات الإنتاجية    "البرهان" يعلن التعبئة العامة من منطقة السريحة بولاية الجزيرة    وزيرة الثقافة البريطانية تعترف: التعيينات السياسية فىBBC أضرت بالثقة    الهيئة القومية للأنفاق: تشغيل المرحلة الأولى من الخط الأول للقطار السريع في الربع الأول من 2027    الخريطة الكاملة لمناطق الإيجار السكنى المتميزة والمتوسطة والاقتصادية فى الجيزة    سيطرة آسيوية وأوروبية على منصات التتويج في بطولة العالم للرماية    وزارة الشؤون النيابية تصدر إنفوجراف جديدا بشأن المرحلة الثانية من انتخابات مجلس النواب    14 نوفمبر 2025.. أسعار الذهب تتراجع 55 جنيها وعيار 21 يسجل 5510 جينهات    ضبط 25 طن ملح صناعي يعاد تدويره وتعبئته داخل مخزن غير مرخص ببنها    رفع آثار حادث ثلاث سيارات بطوخ وإعادة فتح الطريق أمام الحركة المرورية    الزراعة": توزيع 75 سطارة مطورة لرفع كفاءة زراعة القمح على مصاطب ودعم الممارسات الحديثة المرشدة للمياه في المحافظات    بدء تطبيق نظام الحجز المسبق لتنظيم زيارة المتحف المصرى الكبير الأحد    أهرامات الجيزة ترحب بالسائحين.. وفصل الخريف الأنسب    المسلماني: مجلس «الوطنية للإعلام» يرفض مقترح تغيير اسم «نايل تي في»    وبالوالدين إحسانًا.. خطيب المسجد الحرام يوضح صور العقوق وحكم الشرع    "سد الحنك" حلوى الشتاء الدافئة وطريقة تحضيرها بسهولة    الصحة: إنشاء سجل وطني لتتبع نتائج الزراعة ومقارنتها بين المراكز    حبس زوجة أب في سمالوط متهمة بتعذيب وقتل ابنة زوجها    اليوم.. عبد الله رشدي ضيف برنامج مساء الياسمين للرد على اتهامات زوجته الثانية    أذكار المساء: حصن يومي يحفظ القلب ويطمئن الروح    «الصحة» و«الاتصالات» تستعرضان دور الذكاء الاصطناعي في دعم التنمية البشرية    اللهم صيبا نافعا.. تعرف على الصيغة الصحيحة لدعاء المطر    محمد عبدالعزيز عن ابنه كريم عبدالعزيز: "ابني ينوي إعادة تقديم فيلم انتخبوا الدكتور"    بسبب تغيرات المناخ.. 29 حريقا خلال ساعات الليل فى غابات الجزائر.. فيديو    اليوم العالمي للسكر| وزير الصحة يعلن توجيه ميزانية موسعة للوقاية منه    سلامة عيون أطفال مصر.. مبادرة الداخلية "كلنا واحد" تكشف وتداوي (فيديو)    الإئتلاف المصرى لحقوق الإنسان والتنمية : خريطة جديدة للمشهد الانتخابي: صعود المستقلين وتراجع المرأة في المرحلة الأولى    مؤتمر السكان والتنمية.. «الصحة» تنظم جلسة حول الاستثمار في الشباب من أجل التنمية    الداخلية تضبط آلاف المخالفات في النقل والكهرباء والضرائب خلال 24 ساعة    نشاط الرئيس الأسبوعي.. قرار جمهوري مهم وتوجيهات حاسمة من السيسي للحكومة وكبار رجال الدولة    أحمد سليمان ينعى محمد صبري: «فقدنا أكبر مدافع عن نادي الزمالك»    انطلاق قافلة دعوية للأزهر والأوقاف والإفتاء إلى مساجد شمال سيناء    صندوق "قادرون باختلاف" يشارك في مؤتمر السياحة الميسرة للأشخاص ذوي الإعاقة    جبران: تعزيز العمل اللائق أولوية وطنية لتحقيق التنمية الشاملة    زيارة الشرع لواشنطن ورسالة من الباب الخلفي    توافد الأعضاء فى الساعة الأولى من التصويت بانتخابات نادي هليوبوليس    مواعيد مباريات اليوم الجمعة 14 نوفمبر 2025    قيصر الغناء يعود إلى البتراء، كاظم الساهر يلتقي جمهوره في أضخم حفلات نوفمبر    أيمن عاشور: انضمام الجيزة لمدن الإبداع العالمية يدعم الصناعات الثقافية في مصر    هطول أمطار وتوقف الملاحة بكفر الشيخ.. والمحافظة ترفع حالة الطوارىء    زى النهارده.. منتخب مصر يضرب الجزائر بثنائية زكي ومتعب في تصفيات كأس العالم 2010    سنن التطيب وأثرها على تطهير النفس    اليوم.. أوقاف الفيوم تفتتح مسجد"الرحمة"بمركز سنورس    مصرع شقيقتين في انهيار منزل بقنا بعد قدومهما من حفل زفاف في رأس غارب    سنن الاستماع لخطبة الجمعة وآداب المسجد – دليلك للخشوع والفائدة    أدار مباراة في الدوري المصري.. محرز المالكي حكم مباراة الأهلي ضد شبيبة القبائل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مذكرات إريك رولو أشهر صحفي ودبلوماسي فرنسي
نشر في الأهرام اليومي يوم 04 - 12 - 2012

عبر مفاوضات طويلة أصر أريك رولو أشهر صحفي ودبلوماسي فرنسي متخصص في شئون الشرق الأوسط علي أن يمنح الاهرام حقوق نشر كتابة الجديد في كواليس الشرق الأوسط مذكرات صحفي ودبلوماسي فرنسي. لتقوم الأهرام بدورها بمنح حقوق نشر عدة فصول لبعض كبريات الصحف العربية وعلي رأسها السفير اللبنانية و الخليج الأماراتية والقبس الكويتية تبدأ من نشرها اليوم يكشف من خلالها الكثير من أسرار60 عاما في الشرق الأوسط: حركة الضباط الاحرار في52 التي تحولت الي ثورة.. ملابسات الدعوة الغامضة لزيارة مصر التي تم طرده منها أيام الملك فاروق.. كيف أرسل الاستاذ محمد حسنين هيكل الكاتب الراحل لطفي الخولي الي باريس يحمل دعوة الرئيس عبد الناصر عبر هيكل لزيارة مصر؟.. كيف أكتشف بعد ذلك أن عبد الناصر كان يسعي الي تحسين علاقتة مع الزعيم الفرنسي ديجول.. ويجول أريك رولو من خلال مذكراتة في أسرار السياسة المصرية عبر لقاءات مع عبد الناصر والكثير من الزعماء
كانت إدارة الصحيفة تثق بي علي الأرجح بسبب تحقيقاتي السابقة في أفريقيا السوداء, في زمن لم يكن من اليسير العمل هناك, حيث كانت حركة التحرر من الاستعمار في أوجها. ومن المؤكد أن معرفتي باللغتين العربية والإنجليزية كان من شأنها أيضا تفسير هذا الاختيار العجيب, لكن ذلك بالطبع ما كان ليفي وحده بفتح أبواب معظم دول المنطقة من أمامي. ولعل تحقيقاتي في إسرائيل, وإيران, و تركيا, هي التي أوحت بقدرتي لكن من جانبي, لم أكن منخدعا بالمرة, نظرا للعداء الشديد الذي كانت إسرائيل تثيره في المنطقة, حتي أنني كنت أنوي التخلي عن منصبي كي أتخصص بمنطقة أخري من العالم, لا تكون لأصولي فيها أية عواقب.
ثم كان أن لاح شعاع من الأمل بعد ثلاثة أعوام, حين طلب مقابلتي صحفي مصري قادم في زيارة عابرة لباريس. كنت قد سمعت عن لطفي الخولي, ذلك المحرر الموهوب بصحيفة الأهرام, والكاتب والمسرحي اليساري. وأثناء الغداء الذي دعوته إليه, قدم لي ضيفي عرضا كان من شأنه إحداث تحول عظيم الأثر في حياتي المهنية. فقد صرح لي بأنه مكلف من قبل محمد حسنين هيكل, رئيس تحرير الأهرام, وصديق الرئيس جمال عبد الناصر وكاتم أسراره, بتسليمي دعوة للذهاب إلي مصر. مؤكدا لي أن كافة التسهيلات ستكون رهن تصرفي لكي أجري تحقيقا صحفيا, وأنني سأكون حرا في تحركاتي وفي الاتصالات التي أرغب في إجرائها, بما في ذلك اتصالاتي بأعضاء المعارضة, وأنني سأكون حرا كذلك في نشر كتاباتي بلا رقيب أو حسيب. وأنني سأمنح علي الفور تأشيرة دخول بمدة الإقامة التي تطيب لي. و كانت تلك كلها مزايا لا تجود بها مصر الناصرية افتراضيا أبدا علي أي صحفي أجنبي كائنا من كان. وعندما اطلعت إدارة صحيفة لوموند علي العرض, سمحت لي بقبول الدعوة بشرط واحد: هو أن تكون كافة تكاليف السفر والإقامة علي نفقة صحيفتنا لا علي نفقة الصحيفة المصرية.
وقد مرت عقود عدة قبل أن أتمكن من كشف الغموض الذي أحاط بتلك الدعوة الغريبة التي وجهها إلي رئيس تحرير الأهرام. فبسؤال المقربين من عبد الناصر بعد رحيله, لاسيما سامي شرف, مدير مكتبه, اكتشفت أن حسابات سياسية محنكة كانت وراء قرار فتح أبواب مصر أمام المبعوث الخاص لصحيفة لوموند. فبحصول الجزائر علي الاستقلال في العام السابق, استأنفت مصر وفرنسا العلاقات الدبلوماسية فيما بينهما; وكان عبد الناصر يأمل في إنهاء سنوات الشقاق والمواجهات, والبدء في علاقات مبنية علي الثقة مع حكومة الجنرال ديجول, الذي أولاه عبد الناصر إعجابا كبيرا, تبين أنه إعجاب متبادل, لاسيما أن الرئيس المصري كان يري محقا أن باريس تمثل بالنسبة للدول المستقلة حديثا طريقا ثالثا يسمح بالإفلات من دائرة المنطق الثنائي السوفييتي الأمريكي. هكذا, بدا لازما تبديد كل أسباب العداء الراهن بين البلدين, بمخاطبة وسائل الإعلام الفرنسية, وذلك ضمن تدابير أخري. وكانت صحيفة لوموند, التي كانت تعد آنذاك ديجولية التوجه وموالية للعالم الثالث, والتي كان تأثيرها يتخطي بقوة الحدود الوطنية, خليقة وحدها دون غيرها بالإسهام في التقريب بين البلدين.
وقد رأي مستشارو عبد الناصر, وبخاصة رئيس تحرير الأهرام, بإيعاذ من لطفي الخولي بلا ريب, إن خطوة أولي في ذلك الاتجاه تقضي بإقامة علاقة مع الشخص الذي يدير قسم الشرق الأوسط بصحيفة لوموند. ولم يكن ذلك الرهان خلوا من الحكمة تماما. إذ كنت أعد في الأوساط السياسية بمثابة تقدمي قابل للتأثر ببعض من إنجازات النظام الناصري.
وكان توجه مقالاتي قد استرعي انتباه المسئولين المصريين. ففي أثناء الأزمة البلجيكية الكونغولية عام1960, كنت قد التزمت موقفا واضحا إزاء المواجهة بين بروكسل وليوبولدفيل( الاسم القديم لعاصمة الكونغو زائير), وذلك لصالح الحركة الاستقلالية وزعيمها باتريس لومومبا, الذي كان ضحية مؤامرة دولية موسعة( لم تكن الولايات المتحدة الأمريكية بمعزل عنها), وهي المؤامرة التي أدت إلي قتله وإلي إحلال موبوتو محله. وقد كنت أنا واحدا من قلائل في الصحافة الفرنسية ممن كشفوا خبايا انفصال إقليم كاتانجا الذي قاده عن بعد اتحاد المناجم, تلك الشركة البلجيكية القابضة التي كانت تملك حق استغلال مناجم النحاس الغنية. وعلي غرار كل كبريات المؤسسات في الحقبة الاستعمارية, كانت تلك الشركة تخشي أن يضر الاستقلال بامتيازاتها الطائلة.
وبعد عامين, في1962, دافعت في سلسلة من المقالات عن الجمهورية اليمنية بعد الإطاحة بالملكية. كما لفتت انتقاداتي المستمرة لدكتاتورية شاه إيران( الذي كان الغرب يعده بمثابة إصلاحي كبير), ولانتهاكاته لحقوق الإنسان, ولخضوعه لإرادة الولايات المتحدة, انتباه الأوساط السياسية المصرية التي كانت تشاطرني آرائي السياسية إجمالا.
ولقد كانت مواقفي المتعاطفة نسبيا مع مصر الناصرية تتباين مع العداء الصريح الذي كانت تظهره كافة الصحف تقريبا إزاء دكتاتور القاهرة; ولم تكن صحيفتي آخر من هاجم الرئيس المصري, أو شبهه بهتلر أو بستالين; أو اتهمه تباعا أو في الوقت نفسه بأنه فاشي, و شيوعي, بل وعميل للكرملين. ومن جانبي, ما كنت بالغر الذي تخدعه النعوت المألوف إطلاقها في الغرب بهدف شيطنة قادة العالم الثالث ممن كانوا يتحدون النظام القائم. إذ لم يكتف قائد الثورة المصرية بالإطاحة بالملكية, وبتجريد كبار الملاك العقاريين من ممتلكاتهم, وبتفكيك دوائر النفوذ الصناعية والمالية الأهلية منها, والبريطانية, والفرنسية, وغيرها, وبتأميم شركة قناة السويس, رمز سيطرة القبضة الأجنبية علي وادي النيل, بل إنه قد أقام أيضا علاقات ودية مع الاتحاد السوفييتي وأتباعه من الدول كي يعادل وزن التأثير الغربي, وبخاصة الأمريكي.
ومن جانبها, كانت فرنسا الجمهورية الرابعة تعتب عليه خاصة دعمه لانتفاضة الشعب الجزائري, ناسبة إليه عمليا تبني الحركة القومية. وكما تقتضي أصول اللعبة في مثل تلك الحالات, اصطبغت الحملة الموجهة ضد عبد الناصر بصبغة أخلاقية واضحة من أجل التستر بصورة مثلي علي المصالح التي لا تود القوي الكبري الإفصاح عنها. وكنت أري أنه من المشروع تماما أن يساند عبد الناصر الثورة الجزائرية, وأن يرغب في تشييد السد العالي بأسوان بهدف توسيع نطاق الري وترشيده في بلد صحراوي في معظمه, وزيادة سعته من الطاقة ومن ثم, رفع قدرته الصناعية. وكنت أعتقد أن قرار واشنطن عام1956 بحرمان ذلك المشروع من مساعدتها المالية والتقنية إنما هو قرار دنيء, إذ هي طريقة لمعاقبة عبد الناصر لإبرامه صفقة أسلحة مع موسكو, رغم كونها صفقة يبررها رفض الولايات المتحدة إمداده بأسباب دفاعه عن بلاده.
ولم يكن من العسير بمكان مشاطرة المصريين ومجمل شعوب العالم الثالث حماستهم إبان تأميم شركة قناة السويس في السادس والعشرين من يوليو(تموز)1956, فيما يمثل بادرة عظيمة الجسارة بالنسبة لتلك الفترة, وفعلا ثوريا هو الثاني من نوعه في تلك المنطقة بعد عملية التأميم المجهضة للبترول الإيراني التي قام بها محمد مصدق, ذلك القومي المعتدل, قبل ذلك بأربعة أعوام. و لقد كان ثمن التحدي الذي رفعه هذا الأخير هو التعرض للإهانة وللتشهير بوصفه, بين تهم أخري, عميلا لموسكو قبل أن تتم الإطاحة به في1953, عبر انقلاب دبرت له وكالة الاستخبارات الأمريكية المركزية(C.I.A.). وفي الحالتين, مع ذلك, تمت استعادة ملكية الموارد الوطنية وفقا لاستحقاقات السيادة وبصورة لا تخرق مصالح المساهمين, الذين تم إبطال ملكيتهم بصورة قانونية وتم تعويضهم بنزاهة.
ولقد بدا لي رد الفعل الانتقامي الموجه ضد عبد الناصر, مقارنة بذلك الذي استهدف محمد مصدق, أشد قسوة و مماثلا في افتقاره للمبررات. إذ لم تكد تنقضي ثلاثة أشهر علي تأميم شركة قناة السويس حتي تدفقت الدبابات الإسرائيلية داخل سيناء بينما رست القوات الفرنسية والبريطانية في بورسعيد, مدعية الرغبة في الفصل بين المتحاربين. وفي الواقع, كان الهدف المشترك للحلفاء الثلاثة هو القضاء علي جمهورية ناصر, فضلا عن طموح الدولة العبرية الرامي إلي التمتع بحرية الملاحة في قناة السويس, بل وإلي الاستيلاء علي سيناء علي وجه الخصوص. وقد بدا نصر الغزاة حتميا رغم المقاومة المصرية العفية, إلي أن فرض الرئيس أيزنهاور التهدئة, وأوجب انسحاب جميع القوات الأجنبية و تحقق له ذلك. صحيح أن رئيس الدولة السوفييتية, المارشال بولجانين, قد هدد من جانبه بالتدخل عسكريا, وهي بادرة ترمز بلاريب إلي مساندة موسكو للدول النامية.
هذا ولم تكن مبادرة الرئيس الأمريكي الفريدة تلك, مترفعة هي الأخري عن كل غرض. إذ كان قد أقلقه تواطؤ لندن وباريس والقدس, من وراء ظهره, من أجل تحقيق هدف جلي هو وضع مصر تحت وصايتهم. وكان أيزنهاور قد أحسن النظر, فقد رفعت وساطته من شعبية الولايات المتحدة, وتأثيرها في مصر وفي مجمل الشرق الأوسط, إلي أعلي مستوياتها, بينما آذن فشل العدوان الثلاثي بنهاية الوجود الفرنسي والبريطاني في مصر, وسجل بداية انحسار تأثير هاتين القوتين في المنطقة. ولم تكن تخطئة إسرائيل بأقل حجما: إذ اعتبرت الدولة اليهودية أكثر من أي وقت مضي دولة توسعية ترتهن بخدمة الإمبريالية الغربية.
وعلي الرغم من ذلك كله, عدت إلي مصر محملا بتحفظات شديدة علي النظام الناصري. صحيح أن الإطاحة بالملكية, وما استتبع ذلك من إصلاحات اقتصادية واجتماعية, واستعادة للسيادة الوطنية بعد اندحار جيش الاحتلال البريطاني نهائيا, كان يوافق معتقداتي في شبابي; لكن الطابع العسكري للنظام الذي أرسته الزمرة التي استولت علي الحكم في الثالث والعشرين من يوليو( تموز)1952, بقي في ناظري أشبه ببقعة لا تمحي. وفي النزاع الدائر بعد ذلك بعامين بين عبد الناصر واللواء محمد نجيب, زعيم الثورة إسما ورمزا, كنت أرجح كفة هذا الأخير, الذي كان يرغب في تقنين كافة الأحزاب السياسية, من الإخوان المسلمين وحتي الشيوعيين, وإعادة الحياة البرلمانية إلي نصابها.
والمفارقة هي أنني لم أكن مجافيا تماما للحجة التي تعلل بها خصوم اللواء نجيب, والقائلة بأن مثيلة تلك الدمقرطة ستؤدي حتما إلي إعادة إقرار نفوذ ممثلي رأس المال الكبير الذين كانوا محتفظين بعد بأسباب السيطرة علي الساحة السياسية. مع ذلك كان نظام الحزب الواحد ساريا في معظم الدول التي حصلت علي استقلالها منذ الحرب العالمية الثانية, وكانت كل المؤشرات تفيد بأن ذلك هو الثمن الواجب دفعه في سبيل ضمان تقدم ورفاهية الشعوب النامية.
وإذ تنازعتني هاتان الفكرتان المتناقضتان فيما بينهما, حسبت أني قد بلغت القسط إذ رأيت أنه سواء هو حزب واحد أو عدة أحزاب, لاشيء يبرر مصادرة الحريات العامة, وخرق ما يسمي في أيامنا هذه بحقوق الفرد. إذ بدا لي القمع الوحشي المنصب في مصر فوق رؤوس كافة المعارضين, من لبراليين وفديين, أو شيوعيين, أو إخوان مسلمين, فوق حد الاحتمال. لاسيما وأن ممارسات العنف بكافة صورها لم تكن استثنائية داخل المعتقلات.
هكذا, نقلت صحيفة لوموند في مطلع الستينيات, أن اثنين من مفكري الصف الأول ممن كنت قد عرفتهم شخصيا في القاهرة في سنوات شبابي, قد قتلا تحت التعذيب, وقد كان الرجلان محط تقديري: أحدهما هو فريد حداد, الملقب بطبيب الفقراء, الذي كان زميلي في المدرسة الثانوية, أما الآخر فهو شهدي عطية الشافعي الذي عرفته حين كان رئيسا لتحرير صحيفة الجماهير الأسبوعية. كان شهدي أستاذا للغة الإنجليزية, وكان يملك من الكاريزما والذكاء ما كان يأسر به الألباب, وقد لعب دورا عظيم الأهمية في الحركة الشيوعية. وتكمن السخرية المريرة في أنهما قد تعرضا للضرب المفضي إلي الموت علي أيدي جلاديهما بينما لم يكن أي منهما مناهضا فعليا لعبد لناصر...
وقد طافت ذكراهما بخاطري حين استقبلني محمد حسنين هيكل في اليوم التالي لعودتي إلي القاهرة في يونيو( حزيران)1963. وفي أثناء العشاء الذي أقامه علي شرفي بسميراميس, ذلك الفندق الكبير الكائن علي ضفاف النيل, حرصت من فوري علي تبديد أي التباس قد يشوب علاقتنا الوليد. فشكرته علي الدعوة التي وجهها إلي, وحمدت له منحي فرصة العودة إلي مسقط رأسي في ظروف تختلف تماما عن تلك التي ألقت بي إلي المنفي.
كما كنت ممتنا له أيضا لحصوله علي موافقة مبدئية من الرئيس عبد الناصر كي يخص صحيفة لوموند بحوار, وهي مكرمة لا يجود بها الريس إلا فيما ندر.
وإذ أخذت أطلعه عرضا علي الأخلاقيات المهنية التي أستند إليها وألتزم بها التزاما دقيقا, ألمحت له بوضوح إلي أنني وإن كنت صديقا فلن أكون أبدا صديقا غير مشروط, وأنني سأنشر لدي عودتي إلي باريس سلسلة من المقالات التي قد لا تلقي استحسانه علي الأرجح وإن كانت ستعكس بأمانة آرائي الخاصة, التي تختلف بالطبع عن آرائه أو عن آراء أولي الأمر في مصر.
وقد استقبل هيكل الرسالة, وهو الرجل الفائق الذكاء, بإيماءة تنم عن الدهشة, أتبعها, فيما بدا لي, برضا لم يكد يخفيه. وفيما بعد, أخبرني لطفي الخولي, الذي كان شاهدا علي اللقاء, أن رئيس تحرير الأهرام يفضل كل التفضيل التعامل مع رجل صاحب رأي, شأنه هو ذاته, حتي وإن تباينت آراؤنا. فقد رأي أن الانتقادات الصادقة الصادرة عن مراقب موثوق قد تخدم النظام الناصري خيرا من المدائح المبذولة من قبل صحفي متزلف. ونظرا لكون هيكل نفسه صحفيا واعيا, وواسع الاطلاع علي أحوال الصحافة الغربية, كان من المستبعد أن يصدمه تمسكي بموقفي.
هكذا, ذكرت له بلا تحفظ مسألة المسائل المحرمة, تلك المتعلقة باضطهاد سجناء الرأي, فأشرت إلي اعتزامي طرحها علي الرئيس في أثناء الحوار الذي سيخصني به. وإذ كنت واثقا أن هيكل لن يغفل عن إخطار عبد الناصر بذلك, فقد أضفت قائلا إن المعتقلات تحجب الجوانب الإيجابية في سياسة الحكومة المصرية عن أعين الرأي العام العالمي, وبالتحديد الرأي العام الفرنسي فيما يخص صحيفتي. ولم يفلت هذا التحذير الضمني من هيكل الذي اكتفي علي سبيل الرد برسم ابتسامة غامضة علي شفتيه. وقد علمت بعد ذلك بأعوام عديدة, أن هيكل كان يشاطرني رأيي سرا.
لقد كان من شأن مقابلتي مع عبد الناصر بعد ذلك بأيام, أن تكون فاصلة علي عدة أصعدة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.