الوثائق التي تنظم الدولة وتحدد العلاقات والحقوق والالتزامات والاتجاهات متعددة, منها القانون والمرسوم واللائحة وقرارات مجالس الإدارة وبرامج الأحزاب.. كلها تعمل في إطار الوثيقة الأم الدستور الذي هو أعلاها قدرا وأكثرها شمولا والتزاما. لكل منها مجاله وسماته, لا يجوز الخلط بين الدستور وغيره من الوثائق التي تنشأ في إطاره وحسب نصوصه. وإن أطلقنا عليها كلمة دستور فهذا خطأ يأتي عن سهو أو جهل أو قصد ولابد من تصحيحه. (الدستور وثيقة معمرة له مكانة متميزة وخصوصية معينة.) إن ما يجعله دستورا ليس أن تصيغه لجنة تسمي لجنة الدستور إنما توافر شروط معينة منها:- تضعه مجموعة من الخبراء في الشئون الدستورية والقانونية وأصول التقنين والصياغة, معهم مواطنون ومواطنات يمثلون بالتساوي فئات المجتمع واتجاهاته في السياسة والاقتصاد والاجتماع والإدارة والأمن والثقافة وتنمية المجتمع. يعقدون جلسات استماع موسعة مع ممثلي الطوائف والأماكن الجغرافية والمهنية والاتجاهات السياسية والدينية والثقافية والأمنية والاقتصادية للتعرف علي آراء المواطنين ومشاكلهم وتطلعاتهم علي أن تؤخذ كلها في الاعتبار. عدم تحديد مجموع الأعضاء سلفا بل تحديد المواصفات المطلوبة للمشاركة وهي تبين العدد, وطريقة الاختيار, وأسلوب العمل. ويتمتع الأعضاء بثقة واحترام الرأي العام, مشهود لهم بالنزاهة والانتماء للوطن أولا وأخيرا, ينظرون إلي الأمام لبناء المستقبل وليس للخلف. يقوم أسلوب العمل علي التوازن والموضوعية والشفافية ولا يكون لأي فريق السيطرة علي غيره ويترفعون عن استعمال الدستور لمحاباة فريق أو لأهداف شخصية. ويضع الدستور القواعد والمبادئ الأساسية التي لها صفة العمومية والشمول دون الدخول في التفاصيل والإجراءات وتطبق علي جميع المواطنين بلا تفرقة.تقوم علي النظر للأمام لبناء دولة ورعاية مصالح الشعب بجميع فئاته. يحدد الدستور نظام الحكم وأسس العلاقات بين السلطات التي تقوم بوظائف الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية علي أساس الفصل بين السلطات منعا لاحتكار السلطة التي تؤدي للفساد السياسي وهو لا يقل ضررا عن الفساد الاقتصادي. ويحمي الدستور الحقوق والحريات للمواطنين علي قدم المساواة. تلتزم نصوصه بالوضوح والشفافية دون مواربة والتفاف.تنساب في اتساق بلا تناقض بينها. ينص صراحة علي المساواة وتكافؤ الفرص وحقوق الفئات المعرضة للاستبعاد مثل الفقراء والشباب والمرأة والمسنين والأقليات العددية والعرقية والدينية والسياسية والدستور العصري يساير التطورات الحديثة ويستثمرها, يهتم بالبحث العلمي والحقوق الجديدة والمتجددة مثل البيئة والصحة والرياضة والأسرة والطفولة والثقافة التي تشكل القيم والقرارات, والتعليم الذي يحدد مستوي الإنسان علما وتربية, مع الانفتاح علي العصر واستخدام ما يقدمه من تكنولوجيا واختراعات لخدمة الإنسان. يضع الضوابط التي تحقق وتضمن العدالة الاجتماعية, وسيادة القانون, وهيبة الدولة واستقلال القضاء واحترام التعددية والتنوع وتوفير الأمن وحماية المجتمع فالدولة تحمي المجتمع وليس العكس( بمعني عدم ترك هذه المهمة لجماعات أو تنظيمات أو ميليشيات). وثيقة تؤكد أن الشعب هو الذي يوجه الدولة ويحاسبها وليس دولة القوامة التي توجه الشعب وتحاسبه. والنص أنه أحد مصادر التشريع, تترجم نصوصه إلي قوانين, كما يحدد طريقة تعديله. والدستور مرآة المجتمع عليه الاهتمام بأمور تتصل بخصائص كل مجتمع. بالنسبة لمصر نذكر منها ثلاث: الحذر من الهيمنة الفرعونية التي نميل إليها. اشتهرنا بها وعانينا منها. وذلك بالحد من سلطات الرئيس في نظام يقوم علي الضبط والتوازن وتوزيع السلطات وكذلك الأول من الهيمنة الدينية التي تستغل أننا شعب متدين فتخلط بين الدين والسياسة مع ما في ذلك من الإساءة إلي كليهما, لا تحقق المساواة والعدل. الثاني احترام التعددية السياسية والثقافية والدينية التي تزخر بها مصر وحمايتها جميعا والحذر من النص علي حماية ثقافة واحدة دون غيرها أو عقيدة دون سواها. الثالث حماية الحقوق والحريات بلا تحفظات أو شروط وحمايتها من افتئات السلطة التنفيذية أو التشريعية فلا يعطي أيهما رخصة مراجعة هذه الحقوق لاستبعاد ما ليس دستوريا هذه وظيفة المحكمة الدستورية. السؤال هو: هل هذه الوثيقة المقدمة لشعب مصر تتوافر فيها هذه الشروط وتنطبق عليها مواصفات الدستور؟؟ الرد الأمين الصادق يؤكد أنها لا تصلح. ابتداء من أسلوب اختيار الأعضاء والأغلبية المطلوبة وسيطرة فصيل واحد, له اتجاه محدد. هذا بجانب عدم حرية التعبير ولا الشفافية وتجاهل اقتراحات الأعضاء وتشكيل لجان سرية تفرض آراءها. لجنة الصياغة أصبحت لجنة الوصاية. نصوصه تضيف صلاحيات وسلطات واسعة للرئيس في أعمال سيادة بأغلبية بسيطة, تعطي رخصة للبرلمان لمراجعة القوانين بما يقيد الحريات, تجاهلت حقوق المرأة وكرامتها, أهدرت آدمية الطفولة, ترفض تجريم الإتجار بالبشر مما يترك الطريق للسماح بزواج القاصرات الذي تعتبره الوثائق الدولية من أشكال الاتجار بالبشر. لا تنص علي المساواة وتكافؤ الفرص في شغل الوظيفة العامة مما يترك مجالا للظلم والاستعباد.. تنزع مسئوليات حماية الحريات والالتزام بالسلوك السوي من أجهزة الدولة وتعطيها لجماعات وهيئات ليس لها شرعية ولا عليها محاسبة. الأخطاء والتجاوزات كثيرة وباستثناء خمس وثلاثين مادة وبعض الإجراءات فإن ما جاء به لا يصلح لدستور. لذلك رفضته أغلب فئات الشعب وانسحبت كثير من قطاعاته بعد أن فشلت في تصحيحه. كيف نتوقع من هؤلاء أن يشاركوا في بناء دولة عصرية ديمقراطية حديثة إذا كانوا يرفضون الدستور الذي هو أساس البناء؟. إن تاريخ مصر زاخر بدساتيره وبمن يعرفون رسالة الدستور ومكانته. كلهم قادرون علي كتابة وثيقة تصلح دستورا... ومصر في انتظار قرار ينقذ الموقف. المزيد من مقالات د. ليلي تكلا