قبل سنتين, بدت علامات سعادة طاغية, وقد ارتسمت علي وجوه, عدد من المراقبين العرب المقيمين في العاصمة التركية أنقرة, بعد أن رأوا بأم أعينهم, تناقص جلي يصيب جحافل المواطنين الأتراك الذين يزحفون عادة في مثل هذا الوقت من كل عام, والذي يوافق يوم العاشر من نوفمبر, إلي حيث يرقد جثمان باني تركيا الحديثة مصطفي كمال أتاتورك, لإلقاء التحية والترحم علي روحه, وراحو يزفون البشري في برقياتهم لمسئولي بلادهم بأن الهالة الاسطورية التي يتمتع بها من قضي علي الخلافة والسلطنة والتي كانت اسطنبول موطنهما ومركزها, في طريقها إلي الزوال. وفي أروقة الداخل تنفست قطاعات, ليس العدالة والتنمية الحاكم بعيدا عنها بل هو في قلبها, المزيد من الصعداء, فما كانوا يرونه, خلال سنوات قليلة الماضية, والتي تزامنت مع صعودهم إلي السلطة التنفيذية, والقصر الجمهوري, لم يعد مصادفة فعزوف مواطنيهم يبدو أنه يتنامي شيئا فشيئا, وهو ما قد يؤشر علي اتساع الدائرة, ولعله يوما يأتي يستجدي فيه المدفن وهو الأكبر لزعيم دولة راحل, زائرا واحدا يجبر خاطره. ولن يكون صعبا علي المتابع أن يخمن ما شعر به رجب طيب أردوغان, الذي يتصادف دائما أن يكون خارج بلاده, في زيارات رسمية, أعد جدول أعمالها بعناية, كي تجنبه المشاركة في تلك الذكري. لكن علي اية حال, فما تم بذره من محاولات دءوب ومدروسة, لطمس ثوابت الجمهورية أو علي الأقل تحجيمها, يبدو أنه أثمر وجاء بنتائج طيبة, أثلجت ولا شك قلوب من يعادونه, بدءا من إعادة وزيادة الزخم حول رئيس الحكومة والجمهورية الراحل تورجوت أوزال مرورا ب عدنان مندريس رئيس الحكومة الأسبق طوال عقد الخمسينيات إلي أن أطيح به في إنقلاب عسكري عام1960 وإعدامه في السنة التالية, وأخيرا وهذا هو الأهم أضفاء قدر من المجد للامبراطورية العثمانية, تلك التي انقض عليها مصطفي كمال, مدشنا جمهوريته العتيدة في أكتوبر.1923 غير أن هذا العام, الذي صادف مرور74 عاما علي وفاة أتاتورك, جاء بما لا يشتهي به أبدا من ناضلوا طويلا لاستئصال بل والانقضاض علي الرجل, فقد تجدد الحنين واصطف الآلاف اكثر من نصف مليون في الصباح الباكر في طوابير طويلة أمتدت عشرات الأمتار, وكل فرد ينتظر دوره كي يضع وردة تعكس محبته علي قبر المؤسس الذي نقل الاناضول إلي مصاف الدول الناهضة التي يشار إليها بالبنان. وفي اسطنبول تكررت مشاهد الوفاء ذاتها, تلك الأحداث ليست عصية علي الفهم أو التفسير, فالملايين من أهل الاناضول ضاقوا ذرعا من محاولات الالتفاف التي تستهدف النيل من مبادئ البلاد خصوصا العلمانية, فما كان منهم سوي أن يلجئوا رمزيا علي الأقل إلي من دشنها, والحق ان زعيم العدالة, بذكائه الفطري تمكن سريعا من قراءة المشهد, ولم يشأ أن يكون استثناء في تيار حب جارف تصور أنه شح وأنه في طريقه للنضوب, وفي محاولة إسترضاء عشاق أتاتورك, أعلن أنه أنتهز الفرصة أثناء زيارته للبوسنة والهرسك ليطلع علي ما تم إنجازه بشأن تجديد وترميم منزل علي رضا أفندي, والد أتاتورك ليصبح متحفا ومزارا للاجيال ليس في تركيا فحسب بل لكل عموم البلقان. ويوم الأحد الماضي وفي مدينة كوتاهيا الشهيرة وسط البلاد وكما هي عادته في الخطابة أسترسل اردوغان معددا مآثر اتاتورك العظيم وكان لافتا تلك البوسترات الهائلة, وفيها صورتان إحداها لاتاتورك والأخري له. ولأنه متذبذب, سرعان وشن هجوما كاسحا ضد الشعب الجمهوري متهما إياه بالعمالة والخيانة, ولم ينته الأمر عند هذا الحزب, بل امتد إلي المؤسسة العسكرية, حيث أعد مشروعا جديدا قد يزيد من هيمنته عليها حتي يقطع عليها الطريق تماما في القيام بانقلاب عسكري!