وردت هذه الكلمات وتكررت في سياق نص مواد كل من البابين الأول والثاني من مسودة مشروع دستور مصر متعثر الولادة, وتوزعت المواد الضامنة لتلك الحقوق والحريات بشكل عشوائي فتشابك ما يتعلق منها بالحقوق السياسية والثقافية والإجتماعية والإقتصادية وكل من الحريات الفردية والجماعية, دون ترتيب منطقي. من هنا ينبغي ترتيب كل هذه المواد (الضمانات) وغيرها مما تجاهلته اللجنة التأسيسية في إطار منطقي وشكل متكامل, يتفق وطبيعة كل مجموعة من تلك الحقوق والحريات, كما هو متعارف عليه في منظومة حقوق الإنسان الدولية المعاصرة, ودون الإكتفاء بما أخذته اللجنة التأسيسية من مواد عن دساتير مصر السابقة التي لا تعكس التطور الكبير الذي حدث لمنظومة حقوق الإنسان الفردية والجماعية علي مدي العقود الثلاثة الماضية, علي الأخص. وكما قلت في مقال سابق (الدستور وإستقرار الوطن- الأهرام,7 نوفمبر),لقد إحتوت مسودة الدستور علي نصوص إيجابية, ومع ذلك فالكثير من مواده الضامنة للحقوق والحريات معرض للتقييد والإعاقة, سواء بإخضاعه لقوانين لاحقة (بادعاء تنظيم هذه الحقوق والحريات) أو بسبب أعراف وتقاليد معادية للحقوق والحريات. وهو أمر جد خطير يستلزم إعادة النظر في صياغة بعض المواد الدستورية والنص في الدستور علي إلتزام مصر بكل الإتفاقيات والعهود الدولية الخاصة بحقوق الإنسان, كما يجب النص علي إنشاء آلية (مفوضية) يناط بها الدفاع عن حقوق وحريات المواطن المصري. ولإيضاح ما أقول علي الجانب الإيجابي, فقد نصت المادة 30 من تلك المسودة علي المواطنون لدي القانون سواء, وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة, لاتمييز بينهم في ذلك; بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة أو الرأي أو الوضع الاجتماعي أو الإعاقة. وهو نص جيد, ويكاد يتطابق مع ما جاء في دساتير مصرية سابقة, وفيه شفاء لكثير من أمراضنا الإجتماعية والسياسية إن فعلناه, لكنه لم يطبق في الواقع المصري علي كل الأصعدة حتي الآن. فهل من المنطق ان نتوقع تحسن الأحوال فيما يتعلق بالمواطنة ووضع المرأة والوحدة الوطنية والسلام الإجتماعي, علي سبيل المثال- إن نحن إكتفينا بوضع بعض الكلمات الرنانة هنا وهناك, أو حتي نصوص جيدة في دستورنا الجديد- دون ان نستخدم الآليات الفاعلة مثلما يحدث في بلاد اخري, وهو ما كان المجلس القومي لحقوق الإنسان ومنظمات حقوقية مصرية عديدة قدطالبت به منذ سنوات لتفعيل مواد الدستور؟! من هنا, أري ضرورة إضافة فقرة أخري إلي هذه المادة لتحدد وتكشف للمشرع ورجل القانون والمواطن عن ماهية التمييز وخطورته, وضرورة إستئصاله, فتنص علي أن: ينشأ التمييز عن كل فعل ينطوي علي التفريق أو الاستبعاد أو التفضيل بين المواطنين ويكون من أثره عرقلة أو حرمان أي شخص أو جماعة من التمتع بأي من الحريات والحقوق. وتجرم كل أشكال التمييز طبقا للقانون. ولا شك أن تجريم ممارسات التمييز سيحد من إنتشاره في المجتمع.من جهة أخري, ولعلاج تهميش المرأة سياسيا بسبب نوعها- في ظل ثقافة ذكورية رجعيةوتعرضها لبعض الغبن الإجتماعي, كان من الجيد أن تنص مسودة الدستور في المادة 68 علي أن: تلتزم الدولة باتخاذ كافة التدابر التي ترسخ مساواة المرأة مع الرجل في مجالات الحياة السياسية والثقافية والاقتصادة والاجتماعة وسائر المجالات الأخري, دون إخلال بالشريعة الإسلامية. وتوفر الدولة خدمات الأمومة والطفولة بالمجان, وتكفل للمرأة الرعاة الصحة والاجتماعية والاقتصادة وحق الإرث, والتوفيق بين واجباتها نحو الأسرة وعملها في المجتمع. وتولي الدولة حماة وعناة خاصة للمرأة المعيلة والمطلقة والأرملة وغيرهن من النساء الأكثر احتاجا. وقد يتصور المرء- عند بداية قراءة هذه المادة- أنها وضعت لتؤكد بشكل عملي علي ما جاء بالمادة 30 التي تحظر التمييز بكل أشكاله بما فيه التمييز ضد المرأة, والتزام الدولة بتفعيل الدستور لتحقيق المساواة بين الجنسين أمام القانون. ولكن اللافت للنظر ان ترسيخ مساواة المرأة مع الرجل تبدو هنا مشروطة بعدم الإخلال بالشريعة الإسلامية. إذا سلمنا جدلابأن إلتزام الدولة... المنصوص عليه في المادة 68 يعتير خطوة جزئية نحو تحقيق مساواة المرأة مع الرجل, فلماذا تجاهلت كلية في ذات الوقت اتخاذ خطوة مماثلة فيما يتعلق بفئات (جماعات) أخري لا يمارس ضدها التمييز والتهميش فقط, بل والعنف الدموي علي مدي أربعة عقود, وأعني هنا, أهل مصر من الأقباط, وجماعات, أو أقليات أخري كأهل النوبة وسيناء والباهئيين والشيعة.أليس من المنطق, وفي ظل المادة 30, أن تكون الحقوق والحريات واحدة للجميع, وخصوصا في البناء الدستوري للعهد الجديد. من هنا, ولكي يكون الدستور الجديد عادلا مع كل من يعيش علي أرض مصر, وطن الجميع, كما ينص في بدايته وفي نصوص أخري, ومتسقا مع المتعارف عليه في المواثيق الدولية لحقوق الإنسان, يجب أن ينص علي أن: تلتزم الدولة باتخاذ كافة التدابير التشريعية لحماية وجود الأقليات والحفاظ علي هوياتها والتمتع بكافة الحقوق والحريات والمشاركة في الحياة السياسية والعامة بشكل فعال. أعرف أن هذه المادة سيتناولها البعض بالجدل السخيف, الذي يتخفي وراءه البعض ممن يصرون علي استمرار الظلم الواقع علي الأقباط وغيرهم من المجموعات المهمشة والمميز ضدها بسبب خاصية جماعية, قد تكون الجنس- اي النوع- في حالة المرأة, أو العرق أو الدين أو اللغة. وقد يأتي الجدل أو حتي رفض هذه الآليات الناجزة ممن لا علم لهم بآليات وإجراءات رفع الظلم والتمييز والتهميش المتعارف عليها والمطبقة في العالم المتحضر. ويجب أن يعترف الجميع بأن لهذه الجماعات ثقافاتها الفرعية بجانب ثقافة الأغلبية التي يشاركونهم فيها, وقد يكون الدين أو اللغة, أو العادات عنصرا مهما في ثقافات وتقاليد هذه الأقليات, كما هو الحال بالنسبة للأقباط وأهل النوبة, والبدو. فهل يصح التمييز ضدهم أو تهميشهم او الإعتداء الجماعي علي ممتلكاتهم بسبب ما يتميزون به من صفات ذاتية لا يمكنهم التخلي عنها؟ نصوص الدستور الخاصة بمنع التمييز ضد الأفراد بدون تفعيلها- تفشل فيي حل المشكلة, والأنظمة المستبدة العنصرية تبقي علي هذه المواد في دساتيرها, وفي ذات الوقت ترفض الإلتزام بإحترام الحقوق الجماعية علي أمل القضاء علي التنوع المجتمعي الذي ينشأ في وجود هذه الأقليات التي غالبا ما تكون متجذرة في أوطانها لآلاف السنين. تحقيق الوحدة الوطنية علي أرض الواقع يستلزم في المقام الأول إتخاذ كل التدابيرلوقف الإنتهاكات الجسيمة التي يتعرض لها الأقباط, وترسيخ المساواة الكاملة بين كل المواطنين وفئات المجتمع المصري المتعدد بها والواحد في آن. وهذا أمر ضروري للسلام الإجتماعي, و أجزم أيضا ان مبادئ الشريعة الإسلامية تعلي من الكرامة الإنسانية وأساسها المساواة المطلقة بين كل بني البشر! كما ان تزيين كتاب الدستور بعبارة الوحدة الوطنية (والتي تعني وحدة مكونات الجماعة الوطنية) بعدما تخلخلت دعائمها علي مدي أربعة عقود و دون الإلتزام اليومي بإتخاذ التدابير الدستورية لحمايتها لا يجعل من نص الدستور إلا أكذوبة مفضوحة أمام الضمير الوطني, والضمير العالمي, بل ويعرض الوطن لخطر داهم في منطقة ملتهبة تتشظي مجتمعاتها بعوامل عدة أهمها إفتقاد العيش المشترك المبني علي العدالة وقبول الآخر.