بعد مرور أكثر من18 عاما علي المذابح العرقية التي أرقت العالم كله, تسعي رواندا بكل مؤسساتها وفي مقدمتها الرئيس الحالي بول كاجامي إلي بذل الجهود لدفع جهود التنمية والمصالحةوالتعايش السلمي لطي صفحة الماضي الأليمة من ناحية. ومن ناحية أخري تحاول محو الصورة الذهنية التي أصبحت مرتبطة بها برغم التغيير الكبير الذي حدث منذ ذلك التاريخ, فهم يدركون أنه ما إن ينطق اسم بلدهم حتي يستدعي تاريخ وصور الإبادة الجماعية والرعب, وتقوم حاليا فرق عمل بجولات وزيارات للترويج لفرص الاستثمار في رواندا التي تتميز بتدني معدلات الفساد فيها إلي أدني مستوي وبتوافر بيئة ملائمة للاستثمار, وذلك في إطار برنامج رواندا.2020 وبالتوازي مع ذلك يسعي رئيسها كاجامي إلي إرساء البنية الأساسية في البلاد من كهرباء وطرق ومراجعات شاملة في المناهج التعليمية والإعلام لإنهاء كل ما يحض علي العنف والكراهية. وكانت حادثة مقتل الرئيس جوفينال هابياريمانا الذي ينتمي إلي قبيلة الهوتو بتفجير طائرته في أثناء عودته من تنزانيا فوق القصر الرئاسي بالقرب من مطار العاصمة كيجالي في السادس من ابريل عام1994 شرارة البداية لأعمال العنف, فبعدها بساعات تم حشد أنصار الرئيس وأثار المحرضون ومن بينهم العقيد باجوسورا الذي تولي مقاليد الحكم وقيادة الجيش آنذاك وهو ضابط عسكري متقاعد من أنصار الاتجاه الوطني للهوتو, النعرات القبلية وأكدوا أن الثأر لمقتل الرئيس واجب وطني ومن ثم أمروا هؤلاء وبالتحديد جماعة أنتيرهاوموي المتطرفة التي يتألف سوادها الأعظم من الشباب بقتل كل من يختلف معه في أفكاره ومعتقداته مهما كان جنسه أو حتي عمره, وبعدها أصبحت عمليات القتل اعتيادية وعشوائية يتم تنفيذها في الأماكن النائية والمعزولة, وتحولت بعد ذلك إلي إعصار يقتلع كل شيء أمامه, ولم يعد هناك أمام الجميع أمل في النجاة بعد أن بدأت مجازرفي إحدي المدارس, في بلدة مورامبي, ثم توسعت واستمرت لمدة100 يوم, حرقت خلالها منازل التوتسي وسرقت ماشيتهم وحين حاول السكان الاحتماء في الكنيسة القريبة تفاجأوا بأن الجنود الفرنسيين اختاروا هدمها وتحويلها لملعب للكرة الطائرة,ثم توالت عمليات الحرق والقتل والاغتصاب لمئات النساء. وإذا اختصرنا تاريخ العداء بين القبيلتين إلي مأساة انفجار الطائرة الرئاسية فإننا نكون قد جافينا الحقيقة, وبالنظر إلي تاريخ الصراع فإننا نجد أن القبيلتين قد سكنتا رواندا وتعايشتا معا وإنصهرتا في مجتمع واحد بفعل عمليات الزواج والمصاهرة حتي احتلتها بلجيكا ومارس المستعمر الأجنبي سياسة التفرقة حيث وقفوا بجانب الأقلية وهي التوتسي وناصروهم وبعد الاستقلال وسيطرة الاغلبية من الهوتو علي السلطة, بدأ الانتقام حتي اضطر أغلبية المضطهدين للرحيل عن البلاد وبعدها كونوا ما أطلق علية الجبهة الوطنية الرواندية وكان من أحد أهدافها إسقاط الحكم, وهو مالم تسمح به فرنسا راعية البلاد في ذلك الوقت وفقط بمساعدة باريس تم الحد من تقدم الجبهة, ثم توالت الأحداث حتي توصل الطرفان لاتفاق سلام عام, ثم مالبث أن تهاوي اتفاق السلام حين قتل الرئيس جوفينال وتوالت الأحداث. لا أحد في رواندا يستطيع أن ينسي مشاهد حزينة لأطفال ونساء وعجائز ورجال وحتي شباب تعساء ألقوا في كل مكان علي الأرض, في مقابل آخرين يشحذون سواطيرهم ويمشون فخورين بكل نفس نجحوا في إزهاقها, في رواندا البلد الصغيرالذي لم يلفت انتباه العالم قبل عام1994, حين تواطأ المجتمع الدولي ووافق ضمنيا وغض البصر عن أكبر مجزرة للإبادة الجماعية في القرن العشرين حين قتل فيها ما يربو من مليون شخص ينتمون لأقلية التوتسي ومن جرؤ وتعاطف معهم من الهوتو المعتدلين. واليوم تسعي رواندا بكل قواها ومؤسساتها إلي طرد أشباح الماضي الذي لاتزال ذيوله تخيم علي الحياة في البلاد, وذلك بوضع أسس للمحاسبة للتغلب علي بطء العدالة, والسعي للحصول علي دعم المجتمع الدولي, ويعرقل ذلك اتهامات دولية لكيجالي بدعم الحركات المتمردة في دول الجوار والمقصود هنا هو اتهامات الكونجو لرواندا بدعم حركة أم.23 وأخيرا: فإن مسألة تحقيق المصالحة هي رواندا هو أمر ضروري وعملية متواصلة يجب أن تنبع من إرادة شعبية ولا تتوقف علي الإرادة السياسية فقط.