ما إن قامت ثورة الخامس والعشرين من يناير وأجريت الانتخابات النيابية مسفرة عن فوز كبير للإسلاميين في مصر حتي بدأ الحديث عن الدولة الدينية والحكم الثيوقراطي..وشرعت كثير من القوي السياسية والفكرية في التخويف من الإسلاميين, أحيانا عن جهل منها بأصول الحكم في الإسلام, وأحيانا أخري عن تعمد واضح لطمس الحقائق وإظهار الخصوم بوصفهم متهمين. وقبل الاسترسال في هذه القضية لابد أن نشير إلي أن( الدولة الدينية)- كما يراها الغرب- صورة مستنسخة لما كان عليه نظام الحكم الذي عرفته أوروبا إبان العصور الوسطي, حيث ساد الاعتقاد بأن الحاكم مفوض من الله ووكيل له في أرضه, ومن ثم لا تجوز مخالفته ولا مراجعة قرراته ولا الخروج عليه أو عزله, وهو ما جعل للكنيسة اليد الطولي في الحكم, فقد كانت تشرع وتعاقب وتحاكم وتفعل ما تريد باسم الدين, فتأخرت أوروبا في وقت كان العالم الإسلامي ينعم فيه بنهضة حضارية لم تشهد الدنيا نظيرا لها آنذاك, حتي إن شوارع الأندلس كانت تضاء ليلا قبل أن يعرف العالم كله إنارة الشوارع. والحقيقة أن( نظرية التفويض الإلهي)- بمعني أن يزعم الحاكم أنه مفوض من قبل السماء, ملحوظ بعنايتها- ليست منتجا إسلاميا; بل عرفت قبل ذلك في الهند والصين, ومصر الفرعونية, والإمبراطورية الرومانية, وغيرها من حضارات العالم القديم, ويكفي أن نعلم أن أول من سك مصطلح( الثيوقراطية-Theocracy) هو جوزيفوس فلافيوس(JosephusFlavius) في القرن الأول الميلادي لوصف الحكومة القائمة عند اليهود. أما( الدولة) في التصور الإسلامي فالأمة فيها هي الحاكمة وهي مصدر السلطة, ولم لا؟! فهي التي تختار حاكمها وتشير عليه, وتنصح له وتعينه, وتعزله إذا ضل أو حاد عن جادة الطريق, والخليفة في الإسلام ليس نائبا عن الله, ولا وكيلا له في الأرض, كما كان الحال في( أوروبا الظلام); بل هو وكيل الأمة ونائب عنها. ولذلك فقد نص الفقهاء المسلمون علي أن الإمامة أو الخلافة عقد بين طرفين هما الأمة والحاكم, وبالتالي فإن كل ما يصدر عن الحاكم من تصرفات إنما يستمد شرعيته من إرادة الأمة, وهو ما يعرف في الاصطلاح الدستوري الحديث بأن الأمة مصدر السلطات. إن الشواهد التاريخية علي بطلان الحكم الديني في التصور الإسلامي كثيرة نذكر منها: أن مبدأ الشوري يهدم فكرة الحكم الديني من أساسها, ولو كان النبي- صلي الله عليه وسلم- حاكما مفوضا من قبل الله تعالي لما أمر بمشاورة أصحابه. ورغم هزيمة المسلمين في غزوة أحد بسبب مخالفتهم أمر الرسول صلي الله عليه وسلم, فقد جاء التوجيه القرآني حاثا له علي الاستمرار في مشاورة أصحابه; قال تعالي:( وشاورهم في الأمر) لتأكيد المبدأ وترسيخه كأهم أدوات الحكومة الإسلامية. أنه لا عصمة لأحد في الإسلام, ولا يتصور أن أحدا يملك التفويض الإلهي دون أن يكون معصوما من الخطأ!! كما أن الإسلام لا يعرف الكهنوت ولا الوساطة بين العبد وربه. عندما تولي أبوبكر الصديق رضي الله عنه- الخلافة خطب خطبته الشهيرة التي قال فيها:( إنما وليت عليكم ولست بخيركم... فإن أصبت فأعينوني وإن أخطأت فقوموني). إن الخليفة هنا يؤكد أنه بشر من البشر يصيب ويخطئ, وأنه في الحالين جميعا يحتاج إلي مساندة الأمة: دعما ومؤازرة عند الصواب, ومراجعة وتقويما عند الخطأ. شهدت بعض فترات الحكم الإسلامي توظيفا خاطئا للدين وانحرافا واضحا عن تصوره لنظام الحكم, كما حدث أيام الدولة الفاطمية الشيعية التي خاطب أحد شعرائها الخليفة الحاكم بأمر الله( ت114 ه) قائلا: ما شئت لا ما شاءت الأقدارفاحكم فأنت الواحد القهار إلا أن ذلك لا يمثل حقيقة الحكم الإسلامي, وهو أمر عارض لا يقاس عليه, فأي منهج لا يعيبه سوء تطبيقه بأي حال من الأحوال. وهكذا يتبين لنا أن الخلاف بين الدولة الدينية والدولة المدنية في صورتها الإسلامية خلاف بين نقيضين لا مجال للمقارنة بينهما; ومن ثم تبدو الدعوة إلي دولة( لائكية) لا دين لها أمرا غير مقبول, تماما كما أن الدعوة إلي دولة دينية علي الطراز الأوربي في عصورها الوسطي الظلامية أمر غير مقبول. إن الدولة التي نريد هي الدولة التي أجمل أمير الشعراء أحمد شوقي خصائصها قائلا: والدين يسر والخلافة بيعةوالأمر شوري والحقوق قضاء