أستأنف اليوم حواري مع الأستاذ يوسف القرضاوي من حيث توقفت يوم الأربعاء الماضي. وكنا قد رأينا فيما سبق من هذا الحوار أن كلام الأستاذ القرضاوي هو وغيره عن الوسطية ليس إلا تبريرا للجمع بين طرفين لا سبيل للجمع بينهما, وهما الدين والسياسة, لأن الدين ثابت والسياسة متغيرة, والدين مطلق والسياسة نسبية.. والدين ينظم علاقة الإنسان الفرد بربه, والسياسة تنظم علاقة المواطن بالمواطن وعلاقة الفرد بالمجتمع.. غير أن حكام الدول الدينية التي قامت في العصور الوسطي لم يلتفتوا إلي هذه الفروق, ولم يفصلوا بين الدين والدولة, وإنما جمعوا بينهما وزعموا أنهم مفوضون من الله, كما كان الحال في الدول المسيحية.. أما في الإسلام, فالخليفة أو السلطان هو ظل الله علي الأرض, ومالك رقاب الأمم, وصلاح الدنيا والدين! والشيخ القرضاوي يتحدث عن الوسطية وكأنها اكتشاف سبق إليه المسلمون الذين يحب الذين يتصدون للحديث باسم الإسلام في هذه الأيام أن يفصلوهم عن ركب الحضارة الحديثة ويميزوهم عن غيرهم في كل شيء, ولو أدي بهم هذا التمييز إلي العزلة والعودة إلي أفكار العصورالوسطي ومجتمعات العصور الوسطي, ودول العصور الوسطي, وأزياء العصور الوسطي.. وإن كانوا مع انتمائهم للعصور الوسطي, حريصين أشد الحرص علي أن يمتعوا أنفسهم بثروات العصور الحديثة, ومباهجها ومخترعاتها المختلفة.. وهذا منهج في ممارسة الحياة يتفق مع الوسطية التي تقضي بالأخذ من كل طرف بنصيب! نحن في الفكر ننتمي للعصور الوسطي, أما في متع الدنيا, فنحن ننتمي للعصور الحديثة.. أهل العصور الحديثة يتحركون من حاضر إلي مستقبل, ونحن نرجع القهقري من ماض إلي ماض أبعد, وهم ينتجون ونحن نستهلك.. ولقد قسمت الأرزاق بيننا بالعدل, فالغربيون لهم هم ومن تبعهم العلم والديمقراطية, والقدرة علي تسخير الطبيعة, ولنا الطغيان والقدرة علي تسخير الجن, والنفط للبعض دون الآخرين. الوسطية إذن تبرير أو تأسيس منهجي أو مقدمة ينتقل منها الشيخ القرضاوي إلي هدفه المحدد, وهو الدولة الإسلامية, التي يدعو لها هو والإخوان المسلمون والسلفيون وغيرهم من زعماء الجماعات الدينية, ويقول عنها إنها دولة مدنية تختلف عن الدولة الدينية الثيوقراطية التي عرفتها أوروبا المسيحية في العصور الوسطي, لكنها تظل مع ذلك دولة إسلامية, لأن مرجعيتها إسلامية! وقد حاولت أن أفهم هذا الكلام فلم أفلح حتي الآن. كيف تكون الدولة إسلامية ولا تكون مع ذلك دولة دينية؟.. وكيف تكون مدنية وإسلامية في وقت معا؟ وما هو الفرق إذن بين هذه الدولة الإسلامية التي يدعو لها الشيخ القرضاوي والدولة الدينية التي عرفها المسيحيون في العصور الوسطي؟ ربما كان الفرق في نظر الأستاذ الفاضل ناشئا من أن الإسلام لا يعرف السلطة الدينية المستقلة أو الكنيسة التي عرفتها المسيحية واستمد منها الحكام المسيحيون سلطتهم السياسية فيما يعرف بالتفويض الإلهي الذي يكون فيه الحاكم المسيحي مفوضا من الله, وتكون الكنيسة هي الواسطة التي تعطي الحاكم هذا التفويض, وبما أن الإسلام ليس فيه كنيسة ولا سلطة دينية مستقلة تمنح الحاكم المسلم هذا التفويض, فالدولة الإسلامية ليست دينية, والحاكم المسلم ليس مفوضا من الله, وإنما هو مفوض من الأمة. ولا جدال في أن الإسلام لا يعرف الكهنوت علي النحو الذي عرفته الديانات الأخري, لكننا نعلم مع هذا علم اليقين أن عدم وجود كنيسة في الإسلام لم يمنع من وجود سلطة دينية, وأن الديمقراطية الوليدة التي عرفها المسلمون في اختيارهم للخلفاء الراشدين لم تعش أكثر من تسعة وعشرين عاما, تحولت السلطة الإسلامية بعدها إلي ملكية مستبدة تنتقل بالدم عن طريق الوراثة, أو بالدم عن طريق السيف.. وهكذا كانت السلطة الإسلامية في ظل الأمويين والعباسيين والعثمانيين الذين امتد حكمهم أكثر من ثلاثة عشر قرنا. في هذا التاريخ الممتد من أواسط القرن السابع الميلادي إلي أوائل القرن العشرين, لم تكن الدول الإسلامية أقل طغيانا واستبدادا واختلاطا بالدين من الدول المسيحية, التي كانت فيها السلطة موزعة بين الملوك ورجال الدين, علي حين كانت في الدول الإسلامية مجتمعة مركزة في أيدي الخلفاء والأمراء والسلاطين الذين اعتبروا أنفسهم واعتبرهم أنصارهم خلفاء الله علي الأرض.. فمعاوية بن أبي سفيان أول الأمويين يخطب في الناس فيقول: أيها الناس.. اعقلوا قولي, فلن تجدوا أعلم بأمور الدنيا والآخرة مني!! أما المنصور, ثاني الخلفاء العباسيين, فيخطب في الناس يوم عرفة فيقول: أيها الناس.. إنما أنا سلطان الله في أرضه, وحارسه علي ماله, أعمل فيه بمشيئته وإرادته!! هذا الواقع التاريخي يتناقض تماما مع قول الشيخ القرضاوي إن الإسلام لم يعرف في قرونه الأولي وفي أيام ازدهار حضارته نموذج الدولة الدينية التي عرفتها المسيحية.. فإذا كان الشيخ يستشهد بأبي العلاء في أبياته التي يقول فيها: مل المقام فكم أعاشر أمة أمرت بغير صلاحها أمراؤها ظلموا الرعية واستباحوا كيدها وعدوا مصالحها وهم أجراؤها فهذا الاستشهاد يدل علي سعة صدر وسعة أفق يستحق بها الشيخ القرضاوي أن نحييه, لأنه وهو رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين, لم يستنكف أن يستشهد بهذا الشاعر العظيم الذي لم تكن علاقته برجال الدين علي ما يرام.. فهم يتهمونه بالزندقة ويحرضون الغوغاء عليه.. وهو يتهمهم بإثارة الفتن, والمتاجرة بالدين والتكسب به.. يقول في المتكسبين: علم الإمام, ولا أقول بظنة أن الدعاة بسعيها تتكسب! فضلا عن أن المعري بعيد عن تلك الوسطية التي يدعو لها الشيخ القرضاوي حين يجمع بين الدين والسياسة فيما يسميه دولة مدنية بمرجعية إسلامية علي عكس المعري الذي يعتبر هذا المنهج في التفكير خلطا وتلفيقا, ولا يثق إلا في العقل حتي إذا خالف النص, لأن النص يمكن أن يؤول ويفسر بما يتفق مع العقل, ولا يمكن للعقل أن يخالف نفسه ليوافق النص, يقول المعري: يرتجي الناس أن يقوم إمام ناطق في الكتيبة الخرساء كذب الظن, لا إمام سوي العقل مشيرا في صبحه والمساء إنما هذه المذاهب أسباب لجلب الدنيا إلي الرؤساء! فإذا عدنا إلي البيتين اللذين استشهد بهما الأستاذ القرضاوي فسوف نجد أن المعري يتحدث فيهما عن أمرين مختلفين: الأول ما يجب أن يكون عليه أمراء المسلمين.. والآخر ما هم عليه في الواقع.. هم من الناحية النظرية أجراء, لكنهم في الواقع طغاة مستبدون, وقد وقف الشيخ القرضاوي عند حدود النظرية, وتجاهل الواقع فلم يلتفت إليه. والشيخ القرضاوي الذي يقدم لنا صورة الأمير المسلم الذي يعتبره المعري أجيرا من الناحية النظرية, لا يقدم لنا صورته عند شعراء آخرين لم يروا أمراءهم مفوضين من الله فحسب, بل جعلوهم أنبياء, ثم زادوا كثيرا وشطوا فجعلوهم آلهة, كما فعل ابن هانئ الأندلسي الذي يقول للخليفة المعز: ماشئت, لا ما شاءت الأقدار فاحكم, فأنت الواحد القهار وكأنما أنت النبي محمد وكأنما أنصارك الأنصار! فإذا قيل إن هؤلاء هم الخلفاءالفاطميون الشيعة ورأي الشيخ القرضاوي فيهم معروف فنحن لا نجد فرقا كبيرا بين ما قاله ابن هانئ في المعز الشيعي, وما قاله الأخطل وجرير والفرزدق في عبدالملك بن مروان وابنه الوليد وسواهما من الأمويين أعداء الشيعة. فجرير يقول عن عبدالملك إنه خير البرية, وإنه صاحب الله, أما كثير بن عبدالرحمن, فيري أن الناس لا يختارون الخليفة, ولا يختار هو نفسه, وإنما يختاره الله: وما الناس أعطوك الخلافة والتقي ولا أنت فاشكره يثبك مثيب وباستطاعة القارئ العزيز أن يعود في هذا الموضوع إلي كتاب الدكتور إمام عبدالفتاح إمام الطاغية. لم يكن الحكام المسلمون إذن وكلاء عن الأمة كما يري الشيخ القرضاوي, ولم يكونوا أجراء كما يقول, ولم يكونوا منتخبين, وإنما كانوا طغاة متألهين جمعوا في أيديهم بين السلطة السياسية والسلطة الدينية, وساعدهم في هذا كثير من الفقهاء الذين تاجروا بالدين ووضعوا أنفسهم في خدمة كل مستبد. فهم كما وصفهم القرضاوي في حديثه علماء السلطة, وعملاء الشرطة! والسؤال إذن: ما الذي تغير في زمننا؟.. والجواب: لم تتغير إلا الأسماء.. أما المسميات فلا يمكن أن تتغير.. الدولة الإسلامية دولة دينية, والدولة الدينية لا يمكن أن تكون مدنية, ولا يمكن أن تكون ديمقراطية! المزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي