يجب أن نتوقف قليلا، فنحن أمام رأيين شديدى الاختلاف، بل هما على طرفى نقيض، أحدهما يرى أن الحاكم قد كفر كفرا بواحا، بل إن دمه حلال إذا استتابه بعض الفقهاء، وأصر على رأيه، بينما يؤكد رأى آخر فى نفس القضية، أن نفس الحاكم، قد نصح الأمة وقام بالمسئولية فحافظ على الرعية واسترد الأرض.. وكلا الرأيين يصدر عن متفقهين فى الدين ، ويستند إلى أصل من القرآن والسنة، ويصل أحدهما إلى حد تكفير الحاكم لمخالفة الشرع، ويصل الآخر إلى دفعه درجات لاتباعه الشرع، ولأن حكم البلاد لحسن الحظ - حتى الآن- مازال مدنيا، فقد أمكن لنا، ونحن الرعية، أن نسمع ونستمع إلى وجهتى النظر، وأن نقارن بينهما، وأن نسأل أنفسنا سؤالا محددا، ترى لو كان الأمر بيد أصحاب الرأى الأول فهل كان يسمح لأصحاب الرأى الثانى بالتعبير عن آرائهم؟.. من المؤكد أن أصحاب الرأى الأول كانوا سيتعصبون لرأيهم، وبعد أن يطلقوه، يخرج من أيديهم، ويصبح من وجهة نظرهم حكماً شرعيا، من يختلف معهم فيه إنما مع حكم الله فى الأمر، وبالمعنى السياسى إنما يعلن انضمامه لحزب الشيطان، ومادام الأمر أمر الله جل جلاله فى مواجهة الشيطان الرجيم، فإن الأمر يخرج عن حدود النقاش أو المعارضة إلى رفض حكم إلهى، ومادام أصحاب الرأى الأول أنصارا لله فيما يراه، فقد حق على الآخرين حكم الله فيمن يختلف مع أوامره ويرفض نواهيه، ولا سبيل أمام الآخرين إلا أن يتهموا بالفسق والظلم تأكيدا لسماحة الحاكمين بشرع الله، وتمهيدا لاستتابتهم أمام فقهاء فى الدين، إن تابوا فأهلا..، ودرس للآخرين، وإن أصروا فقد كفروا كفرا صريحا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم. ليس الأمر إذن أمر قرآن وسنة، أو أمر قبول بهما أو عدم قبول، أو إيمانا أو عدم إيمان، أو أكثر من ذلك تفقها فى الدين أو جهلا به، فطرفا الخصومة ملتزمان بالقرآن والسنة الصحيحة قابلان لحكمهما فى الأمر، مؤمنان بالله إيمانا صحيحا، متفقهان فى الدين بلا شبهة أو شك، مطلقا السراح، متفتحا الفكر، حرا الاجتهاد لمجرد كونهما مازالا فى إطار دولة يحكمها دستور وضعى، لا يرى فى اختلاف الرأى جريمة، ولا فى معارضة الحاكم كفرا، ولا فى رفض الرأى الآخر معصية، ولا فى الاجتهاد المخالف فسوقا، وهو من قبل ومن بعد لا يحل دما، ولا يسأل المخالف التوبة، ولا يخلف بين اجتهاد البشر وحكم الله عز وجل، وهو آفة من يحكمون دولة دينية، قديما كان أو حديثا، دون ان يكون لذلك علاقة بروح الدين للأسف الشديد، ولكنه لزوم ما يلزم، وواقع ما يحدث، ليس فقط فى جليل الأمور بل فى أهونها للأسف الشديد، والتاريخ الإسلامى بعد الخلفاء الراشدين ملىء بمثل هذه المواقف، ولعل ما أثاره الخليقة (المأمون) من زوابع حين أثار قضية (خلق القرآن) وهى قضية فلسفية ربما يعجز عن الخوض فيها كثير من المثقفين، خير نموذج على ذلك، فكم من دم أريق، وكم من أرواح زهقت، وبلغ الأمر أن عُذب الإمام (ابن حنبل) ونُكل به، ثمنا لاعتراضه على رأى المأمون، الذى لم يعد فى نظره (أى نظر المأمون)رأيا أو اجتهاداً، بل معلوما من الدين، من ينكره خليق بأن يعذب أو يلقى حتفه، وهو أمر لايمكن أن يحدث من حاكم إلا عن يقين منه بأنه يد الله تهدى من يختلف إلى ما يعتقد أنه حق، لا يبالى أن سفك دما أو استعبد حرا، أو أزهق حياة، بل ربما وجد فى ذلك كله سبيلا إلى مرضاة الحق سبحانه وتعالى، وأى دليل أبلغ من ذلك على إيمان من يحكمون بأسلوب المأمون، بأنهم يحكمون بالحق الإلهى، وأن حاكم الدولة الدينية يمكن أن يعمل به الخلط إلى الدرجة التى يرى فيها أن اجتهاده الشخصى يمكن أن يرقى إلى مرتبة الأصل من أصول العقيدة، لنقرأ خطبة المنصور (الخليفة العباسى) بمكة: (أيها الناس إنما أنا سلطان الله فى أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده، وحارسه على ماله، أعمل فيه مشيئته وإرادته، وأعطيه بإذنه، فقد جعلنى الله عليه قفلا إن شاء يفتحنى لإعطائكم وقسّم أرزاقكم، وإن شاء أن يقفلنى عليها أقفلنى).. ولنقرأ أيضا تاريخ كثير من الخلفاء الذين حكموا باسم الدين بعد الخلفاء الراشدين، لترى مسلما يقوده إلى حتفه بيت شعر، وتنجيه من الموت طرفة أو دعابة أو سرعة بديهة، وحتى أصبح حديث السياف جزءا لا يتجزأ من تراث التاريخ لسيرة هذه الدولة، وحتى حظى بعض السياف بشهرة تجاوزت شهرة بعض الخلفاء، إلى الدرجة التى أصبحنا فيها نعرف اسم(مسرور) سياف الرشيد ونجهل اسماء نصف خلفاء الدولة العباسية على الأقل لقد تحرزنا فيما نكتب عن سيرة الخلفاء بعبارة (بعد الخلفاء الراشدين) خوفا من أن يلتصق بهم رذاذ ما ارتكبه من تلاهم من الخلفاء لكن الأمر المؤكد أن نظرية الحكم بالحق الإلهى، تجد تأهيلا قويا فى مقولة الخليفة عثمان بن عفان حين طلب منه الثائرون عليه أن يعتزل الخلافة، فأجابهم بالعبارة التى أصلّت تصور الحكم بالحق الإلهى عند من تلاه:(لا والله ،إنى لن أنزع رداء سربلنيه الله) وهى العبارة التى وضعت الفكر السياسى الإسلامى كله عند مفترق طرق بين أغلبية تأخذ برأى عثمان رضى الله عنه، وفى أن الله هو الذى يولى الخليفة، ومن ثم فلا حق للرعية فى نزع الإمام من مكان رفعه الله إليه، وأقلية ترى أن الأمة مصدر السلطات، هى التى تولى وهى التى تعزل، وهو الرأى الذى تبناه المعتزلة فيما بعد، لعل فى تسميتهم بالمعتزلة دليلا على موقف الدولة الإسلامية منهم وموقفهم فيها..