هل نحن في حاجة إلي ولاية الفقيه؟ د. حازم الببلاوي تناولت الصحافة المصرية أنباء عن اعداد جماعة الاخوان المسلمين لبرنامجهم السياسي. وجاء فيما تداولته الأخبار أن هذا البرنامج يتضمن إنشاء مجلس أعلي أو لجنة للفقهاء لإبداء الرأي في مدي شرعية القوانين والسياسات. وهو أمر أثار عند البعض هواجس القلق بتبني مفهوم ولاية الفقيه والذي أخذت به الجمهورية الإسلامية في إيران. وأشارت تصريحات المسئولين في الجماعة إلي أن البرنامج المشار إليه مازال في مرحلة الإعداد ولم يبت فيه بشكل نهائي, وأن فكرة هذا المجلس ليست أكثر من صورة أخري من إدارات الفتوي والتشريع في مجلس الدولة. ورغم هذه الإيضاحات فلا يزال الكثيرون علي تخوفهم, ويرون أن مثل هذا الإجراء إذا أخذ به قد يكون خطوة علي الطريق إلي الدولة الدينية بقبول شئ من مفهوم ولاية الفقيه القائم في إيران. وليس الغرض من هذا المقال مناقشة مانشر عن برنامج جماعة الاخوان المسلمين في ذاته بقدر ما هو إعادة التذكير بموقف الإسلام من نظم الحكم السياسية, وبوجه خاص رفض الإسلام لمفهوم الدولة الدينية باعتبارها سلطة معصومة أو شبه معصومة تنطلق باسم الدين. ولعل نقطة البدء هي التأكيد علي أن نظم الحكم في الإسلام هي عمل سياسي بشري لاشأن للدين فيه. وكان المغفور له الشيخ علي عبد الرازق قد نشر كتابا مهما عن الإسلام وأصول الحكم بحث الخلافة والحكومة والإسلام, في عام1925, عندما عن للملك فؤاد آنذاك أن يتطلع إلي خلافة المسلمين, بعد انتهاء الخلافة العثمانية, بمقولة إن الخلافة ركن من أركان الإسلام. وقد تصدي الشيخ علي عبد الرازق ببلاغة وقوة لهذه الدعوة, موكدا أن النبي محمد عليه السلام لم يكن ملكا أو سلطانا, وإنما كان صاحب رسالة دينية, وأن ما جاء في القرآن عن الرسول لم يتجاوز حدود البلاغ المجرد من كل معاني الملك أو السلطان. وما أرسلناك عليهم وكيلا( سورة الإسراء), فإنما يضل أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن أهتدي فلنفسه ومن ضل عليها وما أنت عليهم بوكيل( سورة الزمر), فان أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا,أن عليك إلا البلاغ( سورة الشوري) فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر إلا من تولي وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر,( سورة الغاشية), وما علي الرسول إلا البلاغ المبين( سورة النور) فالقرآن كما يؤكد الشيخ عبد الرازق صريح في أن محمدا, عليه السلام, لم يكن له علي أمته غير حق الرسالة والبلاغ. ويذكر الشيخ في كتابه أن رجلا جاء إلي النبي عليه السلام لحاجة يذكرها, فقال له صلي الله عليه وسلم: هون عليك فأني لست بملك ولا جبار, إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة وهكذا ينتهي الشيخ علي عبد الرازق إلي أن الإسلام قد جاء بالعديد من أنظمة وقواعد وآداب الحياة, ولكن لم يكن فيه شئ كثير أو قليل من أساليب الحكم السياسي( أصول الحكم الطبعة الثانية1925, ص84), فمحمد عليه السلام ماكان إلا رسولا لدعوة دينية خالصة للدين, لاتشوبها نزعة ملك, ولادعوة لدولة( نفس المرجع ص64). وهذا ليس بدعة في تاريخ الرسل, فكما يؤكد شيخنا أننا, لانعرف في تاريخ الرسل من جمع الله له بين الرسالة والملك إلا قليلا( نفس المرجع50). الدولة السياسية ونظمها هي عمل بشري يتطور مع تطور الحياة واحتياجاتها. فالدولة الإسلامية التي أنشأها المسلمون بدءا من دولة الخلفاء الراشدين, هي عمل بشري نتيجة للحوار والنقاش وبعد أخذ ورد في السقيفة وليس لأحد أن يسبغ علي هذا الشكل صبغة دينية أو إلهية. وبعد أن اتسعت الدولة وتنوعت المصالح وتعقدت وتغيرت موازين القوي تحول حكم المسلمين إلي ملك بني أمية, وهو أيضا عمل سياسي بشري لامجال لسلطة دينية فيه, وذلك حتي وهنت قوي الأمويين وتغلب عليهم العباسيون وقامت الخلافة العباسية, التي هي بدورها عمل سياسي بشري رغم ما قامت به الدعوة العباسية من دعاية دينية للترويج لأهل البيت. فالحكم والسياسة هي من أمور الدنيا وليست من أمور الدين, والخلاف حولهما إنما هو خلاف في أمور الدنيا لاشأن لسلطة دينية فيه. واليوم تطل علينا هواجس جديدة قد تنتهي بإقامة سلطة دينية أو شبه دينية باسم مجلس الفقهاء. وهذه قد تكون بداية للدولة الدينية, والتي تتناقض تماما مع الإسلام. فالإسلام لا يعرف أصلا مفهوم السلطة الدينية فهو كدين للفطرة أنشأ علاقة مباشرة بين الفرد وربه, دون وساطة من كهنة أو رجال دين. فلا كهانة في الإسلام, ولا وسيط بين الفرد وخالقه, وليس لأي فرد أو سلطة تفويض من الله, وبطبيعة الأحوال فإن علوم الدين من قرآن وسنة ولغة وتاريخ تحتاج فيمن يتعرض لها أن يتمتع بعلم واسع وغزير في هذه الأمور حتي لايفتح الباب إلا لمن توافرت لديه شروط العلم. ولهؤلاء العلماء قدرهم علي قدر اجتهادهم, ولكن ليس لأحد عصمة فيما يقول, ولا يستطيع أحد أو سلطة أن يدعي لنفسه القول الفصل. وإذا كان موقف الإسلام واضح وصريح في عدم قبول مفهوم السلطة الدينية, فليس الأمر كذلك بالضرورة في الأديان الأخري. فالمسيحية مثلا تعرف مفهوم السلطة الدينية حيث تعتبر الكنيسة ركنا من أركان العقيدة الدينية. فالعقيدة المسيحية وخاصة لدي الكاثوليك تري أن الروح القدس قد حلت بالكنيسة, فهي ظل الله في الأرض, كما انها استمرار لرسالة السيد المسيح . وكان السيد المسيح قد أوصي بطرس الرسول بعد أن غير اسمه لمعني الصخرة مطالبا إياه ببناء الكنيسة علي هذه الصخرة, والتي حلت بها الروح القدس, وفقا للعقيدة, بعد صعود السيد المسيح إلي السماء. ومن هنا بدأت الكنيسة تتصرف باعتبارها سلطة روحية مفوضة من الله مباشرة. وقد باشرت الكنيسة هذه السلطة الروحية علي أبنائها حتي اعترف الإمبراطور قسطنطين بالمسيحية واعتنقها, فظهر وخاصة بعد ضعف الإمبراطورية صراع بن الكنيسة والإمبراطور. فأصرت الكنيسة علي أن لها وحدها السلطة الدينية علي العباد وأن للإمبراطور السلطة الزمنية فقط. وتوسع البابا في مفهومه للسلطة الدينية, فكون الجيوش وفرض الضرائب بل وضمن دخول الجنة لمن يدفع مقابل صكوك الغفران. وأصبح البابا, باسم السلطة الدينية, شريكا في الحكم ينازع الإمبراطور يغلبه حينا ويخضع له أحيان أخري. وحتي إعلان الحملات الصليبية لم يأت من رجال السياسة والحرب بل جاء علي لسان البابا أيربان الثاني(UrbanII)1095, مما غرس بذور الشقاق بين المسلمين والمسيحيين. وفي كل هذا يتبين إلي أي حد تحولت السلطة الدينية للكنيسة إلي سلطة سياسية تتحكم باسم الدين, مما أفسد الدين والسياسة معا. ولذلك لم يكن غريبا أن تبدأ حركة الإصلاح في أوروبا في بداية القرن السادس عشر مع الدعوة إلي البروتستانتية والعداء للكنيسة الكاثوليكية. وقد بلغ عداء مارتن لوثر لهذه الكنيسة أنه اعتبره عدو السيد المسيحAnti-Christ. واستمرت الدعوة للإصلاح الديني في أوروبا بإبعاد الكنيسة عن السياسة حتي توصلت معظم الدول الأوربية إلي مفهوم العلمانية وفصل الدولة عن الكنيسة. وهذا الوضع الخاص بالكنيسة غير موجود في الإسلام فمفهوم رجال الدين غير معروف علي ماذكرنا في الإسلام إلا باعتبارهم أهل علم واجتهاد, وأنهم بشر مثل غيرهم يخطئون ويصيبون, ومع ذلك فإن أهل الشيعة في الإسلام وربما نتيجة لما لحقهم من ظلم واضطهاد علي مر العصور من الأمويين ثم العباسيين قد لجأوا إلي الانزواء والتخفي وراء ماعرف بالباطنية أو التقية وهي إظهار غير مايبطنون, رغبة في اتقاء شر الظالمين من الحكام. وفي هذا الجو العام من الاضطهاد والتخفي والباطنية عرفت بعض فرق المذهب الشيعي شيئا من التطرف والغلو, والتف معظمهم حول أهل البيت, بل وذهب البعض منهم إلي حد تقديس الأئمة من أهل البيت. وقد اعترفت هذه الفرق لهؤلاء الائمة من أهل البيت بالعصمة كسلطة دينية روحية إلي جانب السلطة الزمنية للخلفاء والحكام. وبذلك دخل هذا المذهب شئ قريب مما عرفته المسيحية من ازدواج السلطة بين سلطة دينية وسلطة زمنية. ولاننسي أن المسيحية كانت قد عرفت بدورها اضطهادا شديدا خلال أكثر من ثلاثة قرون وقبل أن يعتنق قسطنطين الديانة المسيحية, في القرن الرابع, وينهي اضطهاد المسيحيين. فوجه الشبه قائم بين الحالين, فئة مضطهدة في حياتهم ولاتجد ملجأ سوي هذه الكنيسة أو هؤلاء الأئمة من أهل البيت, فهم الملاذ والخلاص من ثم يسهل أن يتحولوا إلي سلطة دينية. وهكذا لم يكن غريبا أن يتضمن الدستور الإيراني بعد نجاح ثورة الخميني نصا يؤسس فيه لولاية الفقيه نائبا عن الإمام, باعتباره المرجع الأعلي في الشئون الدينية. وهو في هذا يكاد يتمتع بعصمة لاتوازيها سوي عصمة الأنبياء. وكل هذا غريب علي جمهور المسلمين الذين لايعترفون بعصمة لأحد, فالإسلام, وقد نجحت رسالته في حياة الرسول, لم يعرف اضطهادا أو تعذيبا لمعتنقيه بعد حياة الرسول, فظهر الحكم السياسي منذ الخلفاء الراشدين واضحا وواثقا بلا حاجة إلي تقية أو ادعاء بسلطة دينية. ورفض أبو بكر لقب خليفة الله مكتفيا بخليفة رسول الله. الإسلام لايعرف سلطة دينية. والسلطة الدينية الوحيدة في الإسلام هي للرسول عليه السلام وبقدر ما أوحي اليه. والآن, تطل علينا في حياء دعوة قد تمهد لولاية الفقيه. وهي دعوة غريبة علي الإسلام, علي الأقل بالنسبة لجمهور المسلمين من أهل السنة. إنها دعوة سياسية في جوهرها تتخفي وراء رداء من الدين, والدين منها براء. فهل لنا من خليفة للشيخ علي عبد الرازق ليدافع عن الإسلام أمام شطحات ونزوات رجال السياسة بإلباس سعيهم للحكم رداء الدين. وما كان غير جائز لملك فلن يكون مقبولا من جماعة أو حزب سياسي. وصدق رسول الله عندما قال لا تجتمع أمتي علي خطأ. وهذه هي الديمقراطية السياسية, فالأمة هي مصدر السلطات, وليست في حاجة إلي وصاية أو ولاية. والله أعلم عن صحيفة الاهرام المصرية 28/10/2007