نحن ندرك مثلا أن الدين شيء وعلم الفيزياء شيء آخر، فعالم الكيمياء أو الفيزياء لا يلجأ إلي النصوص الدينية وهو يجري أبحاثه ويدرس مادته ويصوغ نظرياته.. بحيث لا نستطيع أن نقول هذه كيمياء إسلامية وتلك كيمياء مسيحية أو علمانية. فماذا عن السياسة والدين؟! السياسة علم من العلوم نشأ مع الدولة، وتطور علي مر الأزمنة والعصور، فصرنا اليوم نتحدث عن الدولة المدنية الحديثة. وقطاع كبير ومؤثر من الإسلام السياسي أصبح يؤمن بالدولة المدنية الحديثة. فما هي الدولة المدنية الحديثة؟!! إنها الدولة الديمقراطية التي تقوم علي أن الشعب هو مصدر السلطة.. هو الذي ينتخب الحاكم ويشارك في وضع الدستور الذي يحدد سلطات الحاكم. والسلطة في الدولة المدنية الحديثة تقوم علي مبدأ الفصل بين السلطات.. سلطة تشريعية ينتخبها الشعب بطريق الاقتراع، والأغلبية المنتخبة تشكل السلطة التنفيذية.. وسلطة قضائية مستقلة غير قابلة للعزل، وتقوم الدولة الحديثة علي مشروعية المعارضة، والمعارضة في الدول المدنية الحديثة هي القوي السياسية التي لم تحصل علي الأغلبية السياسية التي تتيح لها تشكيل السلطة التنفيذية، وذلك لا يحول بينها وبين المشاركة السياسية.. فهي تشارك حسب حجمها في التمثيل داخل البرلمان حيث تناقش مشروعات القوانين، وفي الرقابة علي السلطة التنفيذية.. وفي الرقابة علي السلطة التنفيذية.. بل وتسعي أخيرا إلي تكوين أغلبية تقودها إلي السلطة التنفيذية. فما هو المصدر الديني لهذه الدولة؟!! إذا رجعنا إلي النصوص الدينية المقدسة فلن نجد نصا واحدا يحدثنا عن النظام السياسي للدولة.. فلا حديث عن الخلافة.. ولا حديث عن النظم الملكية دستورية كانت أم مطلقة ولا حديث عن النظام الجمهوري.. وهل يكون رئاسيا أو برلمانيا ولم تحدثنا النصوص الدينية عن مشروعية المعارضة. وفي النظم السياسية القديمة بما فيها النظم التي سادت بلاد المسلمين كانت المعارضة رجسا من عمل الشيطان يتعين البطش بها بالسيف وقطع الرؤوس، حتي لو كان أحفاد الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم هم أقطاب هذه المعارضة، ووقائع مذبحة كربلاء غير منكسورة، ومسطرة في كتب التاريخ. وللأنصاف فإن الخلفاء في بلاد الإسلام أمويين كانوا أو عباسيين أم فاطميين أم عثمانيين لم يكونوا خارجين عن الدين وهم يبطشون بالمعارضة السياسية بكل تلك القسوة.. وفي الوقت نفسه لم يكونوا ملتزمين بأحكامه.. هم كانوا يسايرون زمانهم فيما يقدمون عليه.. فمصادر الدين لم تحدثنا عن نظام الحكم الواجب الاتباع. وتركت الأمر للاجتهاد البشري في كل زمان ومكان. وانفصال الدين عن السياسة ليس رأيا يقول به الليبراليون والعلمانيون في العصر الحديث.. ولكن أول من قال بفصل الدين عن السياسة كان السيد المسيح حيث قال كلمته "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله". ولم يكن السيد المسيح ليبراليا أو علمانيا وهي مفاهيم عصرية نشأت مع الدولة المدنية الحديثة.. وإنما كان السيد المسيح رسولا يوحي إليه، وصاحب كتاب تنزل من السماء، وكلماته عند المسيحيين والمسلمين هي كلمة السماء إلي أهل الأرض. ولكن وعلي الرغم من ذلك فإن كثيرا من أهل الإسلام السياسي يري أن الإسلام يخالف المسيحية في هذه المسألة.. فالسياسة في الإسلام من صميم الدين. ومن يقول بفصل الدين عن السياسة فهو كافر آثم.. دون أن يجرؤ واحد منهم علي اتهام السيد المسيح بالكفر والإثم. ونعود إلي الدين الإسلامي في نصوصه المقدسة، فلا نجد ما يشير إلي الديمقراطية أو مشروعية المعارضة، ولا إلي التعدد الحزبي، ولا تداول السلطة بين أغلبية ومعارضة.. ولا ما يشير إلي الخلافة أو الجمهورية الرئاسية أو البرلمانية.. وانتقال هذه وتلك بالتوريث أو بغير التوريث.. وإنما تركت ذلك كله للاجتهاد البشري حسب ظروف كل عصر وتخضع للتطور والاكتمال مع تطور الحياة الإنسانية علي مر العصور.. فالتقي الدين الإسلامي علي غير ما هو شائع مع الدين المسيحي ما لله لله.. وما لقيصر لقيصر.