اليوم هو يوم عرفة أفضل أيام العام فيه ركن الحج الأعظم الوقوف بعرفة ولقد قال النبي- صلي الله عليه وسلم- الحج عرفة, يتجلي فيه ربنا الكريم علي أهل الموقف ويباهي بهم الملائكة ويقول: اشهدوا ملائكتي أني قد غفرت لهم, وغدا هو أول أيام النحر فيه يطوف الطائفون بالبيت العتيق وليطوفوا بالبيت العتيق ثم يسعون بين الصفا والمروة إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما. فهنيئا هنيئا لمن اختاره رب العالمين ليكون ضيفا عليه لبيته الحرام, وهنيئا هنيئا لمن وقف بعرفات وقلبه معلق برب السماوات والأرض صاحب الفضل والمنة والكرم, وبعد ذلك طاف بالبيت الحرام وسعي بين الصفا والمروة راجيا القبول والعفو وأن يدخل في زمرة من ذكرهم النبي- صلي الله عليه وسلم- في الحديث الشريف: من حج فلم يرفث أو يصخب عاد كيوم ولدته أمه, ما أجمل أن يعود الحاج صفحة بيضاء خالية من الذنوب والمعاصي ليستأنف حياة يرجو أن يملأها بالطاعة والإحسان. إن هذا الأمل هو الذي يدفع الكثيرين إلي السعي الحثيث كي يكونوا ضمن وفد الرحمن, فمنهم من يوفق في الوصول ومنهم من ينتظر متسلحا بأشواق عارمة وعزم أكيد مهما كان العذر الذي منعه متأملا قول الشاعر: يا راحلين إلي البيت العتيق سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا أقمنا علي عذر تملكنا. ومن أقام علي عذر فقد راحا وإن صاحب العذر يسعي جاهدا ليتخطاه ولينعم بالرضا والقبول حال سيره جسدا وروحا إلي الأرض المقدسة, فالجسد ينتقل من أرض إلي أرض والروح تبقي متصلة ببارئها, عرفانا بأن الزيارة للبيت العتيق هي في الحقيقة زيارة رب البيت. ويروي أن أحد الحجاج بعد عودته أخذ يتكلم عن البيت وعن الصفا والمروة وعن منا وعرفات مأخوذا بقدسية هذه الأماكن ولم يرد في كلامه إشارة عن الله عز وجل, فقال له أحد الصالحين: عد فحج فإنك لم تحج, يقصد أنه لم يحج الحج الكامل, ثم قدر لهذا الرجل أن يعود وأن يحج وعند رجوعه أخذ يتحدث عن البيت ورب البيت وعن الأماكن المقدسة وعن الرب الكريم الذي قدسها, فقال له الرجل الصالح نفس الكلام: عد فحج فإنك لم تحج, ويشاء المولي لهذا الحاج أن يعود للمرة الثالثة ولما رجع صرح في إيمان عميق قائلا ما رأيت إلا صاحب البيت, فصدق الرجل الصالح علي قوله: أما الآن فقد حججت. إن المقصود بهذه القصة الرمزية ليس تكرار الحج حتي يثبت أن الحاج قد ارتبط بالله وحده, لكن يفهم منها أن الذي يحج يجب ألا تشغله روعة الأماكن وجمالها( وهي جميلة ورائعة) لكن الذي يجب أن يشغله هو رؤية الله له ورؤيته هو لله, إذ الفضل منه وحده وإليه والعطاء والقبول بإذن منه سبحانه. مثل ذلك حدث للسيدة هاجر أم سيدنا إسماعيل وزوجة أبي الأنبياء إبراهيم- عليهم السلام- حينما قالت لزوجها وقد هم بتركها ووليدها في واد غير ذي زرع: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم, قالت: إذن فلن يضيعنا, لقد تعلق قلبها بالله رغم الوادي الأجدب الذي لا زرع فيه ولا ماء, فتجلي الله عليها وعلي وليدها بنبع من الماء الطهور لازال يروي عطش الحجيج إلي يوم الناس هذا وإلي ما شاء الله. ونلحظ هذا الملمح أيضا حينما شب اسماعيل عن الطوق وأصبح فتي يافعا وتعلق قلب أبيه به فإذا بالأمر الإلهي يأتي إليسيدنا إبراهيم رؤيا منامية أن يذبح ابنه, فلا يتعلق القلب إلا بالله آنذاك, قال ابراهيم لابنه: إني أري في المنام أني أذبحك, فانظر ماذا تري., ويعلق المفسرون علي ذلك بقولهم: إن هذا لم يكن استئذانا من ابراهيم لابنه, بل كان استئناسا لكيفية تنفيذ أمر الله إذ لا يعقل أن يأتي أمر من الله إلي نبي من أنبيائه ثم يستأذن فيه أحدا من الخلق. وفي ثنايا اجابة سيدنا اسماعيل: يا أبت افعل ما تؤمر, ستجدني إن شاء الله من الصابرين. نجد نفس الارتباط بالله والرضا به وعنه في حضور رباني ملأ قلب اسماعيل- عليه السلام-. وعلي خطي الأنبياء في ارتباطهم بالله عز وجل سار احد صالحي هذه الأمة وهو حاتم الأصم الذي أراد الحج فناقشه بعض أفراد أسرته قائلين: لمن تتركنا ونحن بحاجة إليك, غير أن احدي بناته قالت: عرفنا الله رزاقا.. فاذهب يا أبت الي الحج, ثم عاني أهل البيت من قلة الزاد بعد سفر حاتم فلام بعض أفراد الاسرة البنت التي شجعت أباها علي الحج ورفعت يديها إلي السماء تدعو اللهم انت الرزاق فارزقنا, وتصادف مرور أمير المدينة وأصابه العطش أمام بيت حاتم فأعطاه أهل البيت قدحا من الماء فكافأهم بصرة من الدنانير, فبكت البنت المتوكلة علي الله ونظرت إلي السماء وقالت: عطاء من أحد الخلق أغنانا فكيف بعطاء رب الخلق. إن الذي اصطفاه ربه بالحج المقبول يجد أثر ذلك عند عودته إلي بلده إذ يظل مرتبطا بالله, محاولا أن تظل صفحة أيام عمره الباقية بيضاء من غير سوء أو ذنوب, يساعده في ذلك رؤية الله لقلبه والاستمرار علي حال الطاعة والعبادة متذكرا قول الله عز وجل: فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف. وكل عام وأنتم بخير. المزيد من مقالات د.حلمى الجزار