تضاد المواقف والاختلاف الفكري والتعصب أمور غير مستحدثة في تاريخ البشرية, فصفحات التاريخ والنصوص الدينية حافلة بالمواقف والصراعات التي كثيرا ما أدت لحروب غيرت خريطة العالم وخلفت ويلاتها آثارا انعكست علي حياة البشر. فقد اقترن الصراع برحلة الإنسان علي الأرض, بدءا من الصراع علي المرعي والمأكل مرورا بصراعات الهيمنة وبسط النفوذ السياسي والديني بالقوة وصولا للحظة آنية كان من المفترض أن تأخذ فيها الصراعات منحي أكثر إنسانية وعقلانية بحكم التطور أو علي الأقل احتراما للاتفاقيات الدولية وبنود وثائق حقوق الإنسان, لكن فيما يبدو أن العجلة عادت لتدور للخلف لنواجه لحظة عنوانها الرئيسي إقصاء الآخر ونفيه ثقافيا, وحضاريا واقتصاديا وسياسيا إن أمكن تحت شعار صراع الحضارات وتضارب الثقافات وما يعرف بالاسلام فوبيا وربما الصين أو اليابان فوبيا. والحقيقة أن اختزال القضية في مجرد ظواهر وتجاهل المرض لن يعالج الداء أو يمنع تكرار أعراضه, فالفيلم سييء السمعة الذي أوجد أزمة في محيط السفارات الأمريكية في معظم دول المنطقة العربية, واتهام جماعات مدفوعة الأجر بإشعال الموقف لغرض ما, أو تصور أن مجرد منع هذا الفيلم أو الاعتذار سيحل المشكلة ويمنع تكرارها مستقبلا يعد نوعا من التبسيط المخل ومجرد مسكن وقتي سرعان ما يزول أثره, فالفيلم الذي أثار حفيظة المسلمين واشمئزاز أصحاب الفطرة السليمة من أتباع الديانات الأخري إنما هو قمة جبل تواري معظمه عن أعيننا, وربما تعمدنا تجاهله, جبل يختفي وراء كل صخرة من صخوره دود أسود ينفث سموما وأبخرة سوداء صنعتها صورة نمطية متبادلة بين الشرق والغرب وتمييز وعنصرية مقيتة وشهوة تحقيق مكاسب سياسية وشبهة استغلال نقاط ضعف الآخر وتجاهل أو الجهل بآليات إدارة الصراعات الثقافية, واللعب علي أوتار الحالة الوجدانية التي تحكم سلوكيات حشود غاضبة يصعب التنبؤ بردود أفعالها أو قياس درجتها أو اتجاهها بعد تعمد الإساءة لمقدساتها. وبرغم أن الصراعات الثقافية قد اتسمت بصبغة سياسية واضحة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية, إذ بدأت الكتلتان الغربيةوالشرقية الترويج لنموذجها الأيديولوجي علي الصعيد الثقافي بين الكتاب والأكاديميين والمثقفين, إلا أن الصراع الثقافي اتخذ منحي جديدا في مطلع تسعينيات القرن الماضي عقب سقوط الكتلة الشرقية إذ ظهرت اتجاهات فكرية لا تخلو من خلفية سياسية وعقائدية تبشر بصراع جديد وقد ظهر هذا الطرح في كتاب نهاية التاريخ لفرانسيس فوكوياما وكتاب صدام الحضارات لصمويل هنتنجتون, وقد بشر الكتاب الأخير بالصدام بين الحضارات الغربية والإسلامية والصينية وربما الهندية. وعقب أحداث11 سبتمبر2001 بات المزاج الغربي أكثر ميلا لاعتبار أن المواجهة والصدام المرتقب سيكون بين الحضارة الغربية والإسلامية. والغريب أنه بالرغم من الجهود التي تم بذلها منذ ذلك الحين في المحافل والمنظمات الدولية لتبني دعوة مضادة لفكرة الصدام بين الحضارات, ترتكز علي حوار الحضارات والثقافات والأديان, وإعداد برامج ذات أهداف محددة وتوقيتات واضحة وآليات للتنفيذ والمتابعة, وإعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الرابعة والخمسين عام2001 عاما للحوار بين الثقافات, إلا أن سياق الأحداث في العالم العربي والإسلامي يشي بأن تلك المحاولات لم تحل إشكالية التناقض بين الحضارتين ولا الاختلافات الثقافية, كما أنها لم تفلح حتي اللحظة في الوصول للغة ومفردات مشتركة تحسم مايمكن حسمه وتتعايش مع الاختلاف وتحترمه. فالفيلم الذي أثار الأزمة مؤخرا لا يأتي في سياق منفصل عما سبقه من تصريحات لبعض المسئولين في الغرب حملت توجهات سلبية, أو عن أزمة الرسوم الكاريكاتيرية في2006 أو عن إعلان أوبرا برلين إلغاء أحد عروضها بسبب تهديد مسلم متطرف, أو عن ردود الفعل العاطفية المتكررة التي تندلع في شوارع العواصم العربية, التي ما تلبث أن تخبو ظاهريا, وأن ظل الغضب جذوة مشتعلة بين الرماد.. ولأن القضية أكبر وأخطر من المبررات سابقة التحضير أو التصريحات الدبلوماسية ومحاولات الترضية من قبل كل من الطرفين, نحاول اليوم أن نتأمل الصورة من جديد, وأن نبحث وراء كل خط فيها, فلماذا لم تفلح كل المبادرات السابقة في خلق حالة حوار متحضر بين الثقافات المختلفة؟ ولماذا تتجدد نفس المشاكل ويتكرر أسلوب رد الفعل العاطفي الذي لا يسفر عن جديد مختلف يحل المشكلة نهائيا, بل ويؤدي لأزمة جديدة تعمق هوة الخلاف؟ هل المشكلة في أيد خفية تستهدف ربحا لا يأتي إلا بدقات طبول الحروب, أم في صلف جانب تدعمه قوي مادية وتكنولوجية في مقابل أمية معرفية يرفل فيها الجانب الآخر, غافلا عمدا أو سهوا عن كيفية إدارة صراع ثقافي أو التعامل مع ردود الفعل العاطفية واستيعاب سلوكيات حشود غاضبة تم المساس بمعتقداتها وتحويل غضبتها لفعل إيجابي؟ أسئلة ربما نجد بعض إجاباتها في التحقيق التالي.