يستحق فيلم الممر الكثير من الإطراء والإشادة فنيا ووطنيا. إحياء وترقية الروح الوطنية سمة رئيسية فى الفيلم عبر تجسيد لإحدى بطولات القوات المسلحة فى لحظة فارقة من عمر الوطن. الفيلم قدم نوعا من التوثيق الدرامى على مستويين؛ مستوى يتعلق بالمجتمع ككل، وكيف تصرفت فئات مختلفة تجاه تداعيات النكسة، بما فى ذلك الاستظراف المعتاد وقت الشدة للخروج من حالة الصدمة، فضلا عن انتشار بعض المظاهر السطحية التى تعرفها المجتمعات البشرية بعد تعرضها لصدمة كبرى غير متوقعة. والمستوى الثانى يتعلق بالقوات المسلحة والتحولات التى مرت بها من حيث التخطيط والتدريب وحُسن توظيف المتاح من الأسلحة والمعدات، بهدف استعادة زمام المبادرة فى مواجهة الاحتلال الإسرائيلى وتحويل حياته إلى جحيم، والإجهاز على روحه المعنوية من جانب واستعادة الروح الوطنية المصرية من جانب آخر. فى مثل هذه الأعمال الفنية يظل هدف صانعوه هو تأكيد فكرة حاكمة ورئيسية، وليس الاهتمام بكل التفاصيل مثل الفترة التاريخية التى حدث فيها موضوع الفيلم، وإن لم يخل الأمر من إشارات فى بعض الحوارات العابرة حول بعض تلك التفاصيل وليس كلها، والتى ترتبط بمرحلة حرب الاستنزاف التى حدد مفاصلها الجيش المصرى عبر عمليات جريئة فى عمق سيناء، وثانيا: بناء حائط الصواريخ لمنع غارات الطائرات الإسرائيلية فى العمق المصرى. والفكرة الحاكمة كما ظهرت فى الفيلم تركز على مواجهة الانكسار، وأن الشعوب الحية يمكنها أن تحول تلك الانكسارات العابرة إلى انتصارات بعد دراسة الأسباب الجوهرية للفشل السابق. والفيلم لم يتعرض لهذه الأسباب إلا عرضا وفى مواقف عابرة وجمل حوارية بسيطة مثل توصيف ما حدث فى سيناء بأنه لم يكن معركة أو حرب أصلا. فى كلا المستويين من التوثيق الدرامى قدر كبير من التداخل والتشابك، عبرت عنه مواقف عديدة فى الفيلم، وبعيدا عن الهنات الفنية البسيطة فى تجسيد تلك المواقف، أشير إلى ملاحظتين أراهما جديرتيْن بالانتباه لكل من يتصدى لعمل فنى يتعلق بالمرحلة التى فصلت بين نكسة يونيو 1967 وانتصار أكتوبر 1973. الملاحظة الأولى تتعلق بموقف المصريين تجاه ما جرى بالفعل. وفى سياق الفيلم، وكما تجسد فى المشاجرة بين الضابط نور وعامل السنترال الذى تعجب من الانسحاب، قد يترسخ لدى المشاهد أن مثل هذه المشاعر السلبية كانت سمة عامة لدى جموع المصريين. وفى رأيى هذا تعميم خاطئ جملة وتفصيلا. وكمصرى مثل آلاف المصريين الذين ينتمون إلى مدن القناة الثلاث، وفرض عليهم التهجير المؤقت بعد اعتبار منطقة القناة ومدنها منطقة عمليات عسكرية إلى حين تحرير سيناء، والبحث عن مكان آخر للعيش المؤقت فى إحدى مدن أو قرى الدلتا، قامت الأسرة طوال الفترة من يوليو 76 الى ديسمبر 73 بالانتقال بين أكثر من مدينة وقرية، كالسنبلاوين والمنصورة وطنطا وبنها والزقازيق. وفى كل هذه المدن عشنا واختلطنا مع أهلها، وعرفنا شبابها وشاباتها ولم يحدث أن وجدنا أحدا لديه مشاعر سلبية كالتى أشار إليها مشهد المشاجرة فى السنترال. فمدن الأقاليم أكثر تحفظا من المدن المفتوحة كالعواصم، وهى أكثر ارتباطا بالجنود. ولا تنتشر فيها مظاهر العبث الليلى كالتى تظهر فى العواصم. ما جرى فى مدن المحافظات يتطلب رصدا ذا طبيعة خاصة، من المؤرخين وباحثى الظواهر الاجتماعية، لاسيما فى الفترات التى تعقب الأحداث الكبرى كالحروب وما فيها من انكسارات أو انتصارات. من ذكريات تلك الفترة التى لمستها حياتيا، علو قيمة التضامن المجتمعى، والترحيب من أهل المحافظات المختلفة بأهل مدن القناة. عشت لفترة ستة أشهر فى بنها بمنزل مكون من ثلاث غرف اقتسمتها ست عائلات، برجالها ونسائها وأطفالها وشبابها. كان اقتسام الطعام وأماكن النوم وتحديد مسئوليات النظافة وترتيب الأمور الداخلية خاضعا لنظام عادل لم يشتك منه أحد. كان الحوار الغالب على الرجال هو البحث فيما جرى وتصور ماذا يمكن أن يحدث ومتى سنعود إلى مدننا وبيوتنا. قبل غروب كل يوم جمعة كان هؤلاء يلتقون وحولهم الأولاد فى سن العاشرة أو أكبر قليلا، لقراءة جماعية لمقال أ. محمد حسنين هيكل، ومناقشة ما بين السطور من أفكار وتلميحات، والخروج باستنتاجات حول ما الذى قد يحدث فى الأيام المقبلة. بعض المناقشات تطرقت الى أعمال فنية ظهرت فى تلك الفترة. أغنية الفنانة شادية قولوا لعين الشمس نالت حظا كبيرا من المناقشات بين رجال كبار حول دلالاتها الفنية والسياسية. مستوى الجدية فى هذه الاجتماعات الأسرية كان عاليا، ولم يحمل أى إساءة مباشرة أو غير مباشرة للجيش، بل محاولة فهم ما جرى وما قد يجرى. الملاحظة الثانية تتعلق بتجهيل الزمن وإخفائه، إذ لا يدرك المشاهدون، لاسيما من الأجيال التى لم تمر بتجربة نكسة 67، وحرب الاستنزاف ثم انتصار اكتوبر 73، أن العملية العسكرية التى جسدها الفيلم لتدمير أحد معسكرات الاحتلال المُحصنة، كانت واحدة من عمليات عدة جرت فى الفترة من نهاية 1968 وحتى أكتوبر 73، والتى تعرف بحرب الاستنزاف، وقوامها تدمير ثقة العدو فى نفسه، وتحميله خسائر بشرية ومادية كبيرة تدفعه إلى إعادة التفكير فى الاستمرار باحتلال سيناء، فضلا عن استعادة الثقة الذاتية ومعالجة الأخطاء الكبرى التى سبقت النكسة. وكل هذه العمليات الفدائية كانت تجرى بالتعاون مع أبطال من أبناء سيناء قدموا العون الرائع الذى أسهم فى نجاح كل تلك العمليات. ولم يكن يضر كاتب السيناريو أن يشير إلى تلك المرحلة فى أحد المشاهد، حتى تكتمل الفائدة للأجيال الجديدة، التى تتحرق شوقا لمعرفة تاريخ وطنها وجيشها وبطولاته، وقدرته مدعوما بتأييد الشعب لتحويل النكسة إلى انتصار كبير. الملاحظتان السابقتان لا تبخسان جودة الممر ككل وإجادة صانعيه فيما قاموا به، لاسيما توثيق درامى عالى المستوى لعملية فدائية ألهبت الروح الوطنية فى حينها وحتى اللحظة. وربما يتحمس اخرون من كاتبى السيناريوهات والمنتجين والفنانين لعمل آخر يحكى عملا بطوليا ينعش الذاكرة الوطنية، ويضع فى اعتباره الملاحظتين السابقتين أو إحداهما على الأقل. ويظل فى الأول والأخير أن الكمال لله وحده. لمزيد من مقالات د. حسن أبوطالب