صدر فى مارس سنة 2019، فى فرنسا كتاب مهم باللغة الفرنسية، مؤلفه كاردينال إفريقى غينى تولى مسئوليات عديدة فى الفاتيكان ولا يزال هو روبير سارا وعنوان الكتاب: أقبل الليل وبدا النهار يميل. ففى أوروبا المعاصرة ثلاثة تيارات فكرية تتنازع العقل والثقافة الأوروبية، فهذه القارة العجوز لم تشهد من قبل قلقاً واحساساً بالخطر يهدد مستقبلها كما تعيشه اليوم ليس خطر الدخول فى حرب، أو خطر الانهيار الاقتصادى بل هو خطر فى صميم كيان أوروبا، فى داخلها، انحسار شديد فى الإنجاب، حاجتها الملحة لأيد عاملة أجنبية، اهتزاز العلاقة مع أمريكا وضعف دورها وتأثيرها فى السياسة العالمية ذلك كله دفع إلى بروز تيارات فكرية تحاول استقطاب الرأى العام، تيار مادى أو قل بصراحة تيار إلحاد يتنكر لكل الحقائق الدينية، فالأديان كما يراها أحد أسباب مأساة البشر والحروب والضحايا فاقت فيها الحروب كافة. التيار الثانى هو تيار يهدف إلى خلق مجتمع مدنى قح لا شأن له بالأديان، لا يعاديها ولا يحاربها وإنما لا يقر بأهميتها ورسالتها، ولعل من درس الحضارة الرومانية يجد أنها اتخذت هذا الموقف وتركت للشعوب أن تعبد ما تعبد وأن تغير عقيدتها كما تشاء فلم يكن يهم الرومان إلا القوة والسلطة واستعباد الإنسان لخدمة الإمبراطورية. التيار الثالث هو تيار المؤمنين بالله وبالقيم الروحية وبيوم الدين، وبالحياة بعد الحياة، مازال قوياً فاعلاً، فالمؤمنون فى العالم كثيرون وإن كانوا الأقلية فيه فإن كان عالمنا على عتبة تسعة مليارات من البشر، المؤمنون بالله فيه أقل من 50 %، ولا ينكر مفكر وجود صحوة دينية فى العالم قد تصل إلى حد التطرف مما يدفع الكثيرين إلى تيار آخر. فى الجزء الأول وعنوانه تدمير القيم الروحية والدينية يتوجه المؤلف إلى العالم الأوروبى ويحاول أن يهز جذور إيمانه وأن يوقظ فيه الحس الروحي، يؤكد المؤلف أن العالم المعاصر قد تنكر للإيمان بالأديان وأنه يرفض الإيمان بالله وفى أعماقه خوف ورعب من محاولة فهم الأديان للخالق، ودعوتى فى هذا الكتاب للعالم المعاصر أن يفكر ملياً فى معنى حياته، إن الإيمان بالله يشبه نور الشمس، يتوهج، ينير يبعث الدفء الروحى فى أعماق الإنسان لكننا لا نستطيع أن نلمسه أو أن نحدده كالحقائق العلمية بل الإيمان ينمو إذا عاشه الإنسان ومارسه فى سلوكه إنه الثقة التامة فى أن الله خلقنا وهو يحبنا وعليك يا إنسان أن تتأمل من حولك جمال الطبيعة. إن أخطر ما أصاب الإيمان فى الغرب أنه تحول إلى أيديولوجية أو نظرية اجتماعية فأضحت قضايا المهاجرين واللاجئين، وقضايا المناخ وهذه أعمال لا غبار عليها لكنها أفرغت من مضمونها الروحي، فالإيمان نور وحب وعطاء وهذا يفيضه الله فى قلب المؤمن. فى الجزء الثانى من الكتاب يتوجه الكاتب فى حواره إلى رجال الدين وليس أدق ما يعبر به عن موقفه أكثر من ذكره نصاً لأحد باباوات الكنيسة هو البابا فرانسيس يوم 21 ديسمبر 2018 يقول البابا لرجال الدين: اليوم يوجد كثيرون من رجال الدين يستغلون رسالتهم ليفسدوا عقول البسطاء، يمارسون مهمتهم كأنهم مستقلون فكرياً وعقائدياً عن ماضى وتاريخ الإيمان، لا يخافون الله، وينكرون يوم الدين يخشون أمراً واحداً أن يكتشف حقيقتهم الناس وأن يسقط الزيف عنهم، إنهم سبب بعثرة، وتمزيق وحدة المؤمنين. ويضيف المؤلف قوله: إن رجل الدين هو رجل الله ورجل البشر، لكنه يترك ذاته منساقاً للعالم ولأعمال أخرى بعيدا عن مهمته الأساسية وهى الدعوة للنور، والمحبة، والتسامح والتضامن وينسى أن القدوة الحسنة أقوى من ألف عظة، ومهمة رجال الدين روحنة العالم وغرس الإيمان قبل السعى للمشروعات الاجتماعية, وبإيجاز إن المؤلف يقدم الصورة الواقعية لانصراف بعض رجال الدين ويطلب أن يعودوا إلى منابع الروحانية الحقيقية فهذه رسالتهم. فى الفصل الثالث ينطلق المؤلف من الحلقة الضيقة التى وجه خطابه فيها إلى الكنيسة الكاثوليكية التى ينتمى إليها، إلى رحاب العالم ويوجه خطابه إلى أهل الإيمان الذين يتمسكون بعقائدهم وبالقيم الروحية، ويتطرق فيه لموضوعات مثل إلى أين يمضى العالم, دعوات الكراهية واحتقار الآخر, أزمة أوروبا, أخطاء الغرب, تهميش الضعفاء من الحياة العامة, نهاية أخلاق النبل والترفع عن الدنايا, الديمقراطية والرأسمالية فى ثوب جديد, الطريق المظلم نحو الانهيار الحرية الدينية. وتناول المؤلف هذه القضايا بشجاعة وموضوعية وبأسلوب راق لا يجرح أحداً، ويمكن الإلمام بفكره فى كل هذه الأمور بإيجاز لا ينكر مفكر أن الغرب يمر بأزمة ثقافية وأزمة هوية، أنه لم يعد يدرك ذاته، فهو فى حيرة من أمره ولا يرغب فى تلمس الأسباب الحقيقية لواقعه وأزمته، ومن المحزن أن بلداناً كثيرة فى عالم اليوم تجهل ماضيها وتاريخها العريق، تلك أمور ستؤدى بلا شك إلى حضارة جديدة تكون أكثر أنانية وتوحشاً، ولذا كل ما يدعو إليه المؤلف أن يغادر كل إنسان هذا العالم بعد أن اسهم فى ترقية مجتمعه وشارك فى رفع مستوى الأخلاق والقيم الروحية. وفى الخاتمة يؤكد الكاتب أن البشرية ليست فى حاجة إلى برنامج أخلاقى وروحى وإنسانى جديد فهى تمتلك عبر خبرتها فى الإيمان بالله وفى تراثها الروحى ثروة هائلة وطاقة لاتنفذ، إنها تحتاج فقط أن تعود إلى ذاتها، وتقر بأخطار حضارة المتعة المندفعة والتى اكتسحت كثيراً من المبادئ الأساسية، وإذا كان الحب البشرى بين إنسان وإنسان يحتاج لكى ينمو وينضج إلى تواصل بالود والرحمة والعطاء والتسامح فما بالك بالإيمان بالله وبحب الله وبرجاء الحياة بعد الحياة، إنه حب يحتاج إلى جهاد للسمو والترقي. إن الكائن البشرى فى كل مكان وزمان مدعو إلى أن يتأمل، ليتجدد، وينهض ويدرك أنه كائن استمد عظمته وكرامته من خالقه، الكمال المطلق. لمزيد من مقالات د. الأنبا يوحنا قلته