فى أوائل القرن الماضى فى الثلاثينيات صاح أحد أدبائنا الكبار وهو توفيق الحكيم إن أسعفتنى الذاكرة وكتب : أيها الغرب ، خذ فلسفتنا وحكمتنا وتقوانا ، وبادلنا بها ما عندكم من علم وإبداع وجراءة الفكر والبحث ، وتوفيق الحكيم وأمثاله طه حسين ، حسين فوزى ، لويس عوض ، الشيخ السنهورى ، والفحام ، كانوا أصحاب ثقافة عربية وثقافة غربية واسعة لم تهتز صلابة ثقتهم فى إيمانهم وأمتهم وثقافتها لم يكن لديهم أى إحساس بالتعالى أو بالدونية تجاه الأمم الأخرى لقد تذكرت مقولة الحكيم وأنا أشهد هبوط طائرة البابا على أرض الكنانة ، وأثق تماما أن الزيارة لم تكن بدافع سياسى أو اقتصادى، وإنما هدفها إنسانى وحضارى كما قال إنى جئت لزيارة بلد عربى حبا وودا فمصر مهد الحضارة وبداية تاريخ الإيمان وأملا فى إشاعة مبدأ اللاعنف سبيلا لحياة البشر . 1 - إن لم يكن قداسة بابا روما ، رأس أكبر الكنائس المسيحية وضمير أكثر من مليار كاثوليكى منتشرين فى كل أنحاء الدنيا ، ومن جميع الجنسيات والثقافات ورمز القيم الروحية وحامل رسالة الإنجيل ، وصوت المسيح ، إن لم يكن البابا هو زارع السلام فى عالم تمزقه الحروب والصراعات وتسحق فيه كرامة الإنسان وحقوق الضعفاء، ورسول المحبة والتسامح والتضامن فى عصر ساده إرهاب بشع وطافت به روح الكراهية والعداء وامتهنت فيه كرامة المرأة والطفل والفقير ، إن لم يكن البابا هو صاحب المبادرة لاختراق الجهل والعنصرية ، فمن تراه غيره يحمل لواء الحب بين البشر والنور للعقول ؟ هذه رسالة مؤمن بالمسيح ، يعبر البحار والمحيطات ليلتقى بالشعوب ويذكرهم بأن الإنسانية أسرة واحدة وأن الحياة هبة من الله وأمانة ، وأن الإنسان هو عريس الوجود أحب عند الله من كل ثروات الدنيا . 2 - إن العالم الإسلامى ، والبلدان العربية ، أمم لا تزال تحيط بها أطياف الحروب الدينية وضحاياها تقلق ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم ، مازال الشرق يتذكر عصور الاستعمار والاحتلال ، والتاريخ فى مسيرته لم يقلب صفحات العداء والكراهية والتعصب، فكان لابد من صوت البابا القادم من الغرب ، ابن الحضارة الغربية ، وواحد من رهبانية الجزويت التى لم تغب عن مشهد التاريخ الإنسانى بل أدت رسالة لاتزال تنبض بالحيوية والقيم الروحية وأسهمت فى بناء ثقافة العالم شرقا وغربا، وبالرغم من أنها قدمت للعالم من القديسين والعلماء من أناروا طريق الضمير والعقل إلا أنها ارتبطت أحيانا ظلما بالاحتلال ، إن قداسة البابا يحاول أن يخترق بسلاح المحبة والرجاء عالم الكراهية والعنصرية ، وهذه بعض من رسالته وكأنه يقول للعالم كفى استسلاما لماض مزدحم بالخرافات والأساطير فالتاريخ عاشق للنفاق وللكذب ، هلم نكتب تاريخا جديدا . 3 - ألق بنظرة على سطح الكرة الأرضية ، ماذا ترى ؟ ترى عالما عجيبا، أمم أقلية تمتلك ناصية العلوم وقوة المال والثراء وتعيش فى ترف ورفاهية ، وأمم غالبية ساحقة (80% من سكان الأرض) يطحنهم الجهل والفقر والمرض ومن نتائج هذا الانقسام البشع ، الآلاف تغرق فى أعماق البحار وهى تحاول الهجرة من عالم البؤس والشقاء إلى عالم المتعة كما يظنون ، وما الإرهاب إن شئت البحث عن جذوره إلا نتيجة الإحساس بالدونية والعجز والفشل أمام حضارة كاسحة ، وهاجس فى عقول كل إرهابى ، كيف ينعم أهل الكفر والإلحاد (فى رأيه) بالرفاهية والاستقرار ونعيش نحن أهل الإيمان والتقى (فى رأيه أيضا) فى العوز والفاقة ، وفى ثلاثينيات القرن الماضى صرخ أحد الأدباء فى بلادنا أيها الغرب خذوا فلسفتنا وحكمتنا وتقوانا وأعطونا ما عندكم من علم وإبداع ورغبة فى الترقي، وبدلا من أن نفكر فى نجاح تجربة الغرب وفشل ورع الشرق ونبحث عن أسبابها لم نجد إلا وسيلة تدمير هذه التجربة، كان على قداسة البابا أن يطوف بالعالم شرقا وغربا ليعلن المبادئ الجديدة للتعايش والتضامن قائلا : ليكن سبيلا هو «اللاعنف» أنه السبيل الأوحد لبناء حضارة إنسانية لكل البشر ، إن العالم متخم بالعلماء والمال والثروات ورجال الحكمة والدين لكنه عالم فارغ كثيرا من المحبة واحترام وقبول الإنسان الآخر . 4 - إن نقطة انطلاق نهضة فى أى مجال ، سياسى أو اقتصادى أو اجتماعى أو دينى ، احترام كرامة «الشخص البشري» الإنسان ، أى إنسان ، كل إنسان ، وبداية انهيار المجتمع احتقار الإنسان والاستهتار بقيمة «الشخص البشري» هذه دعوة التقدم والاستقرار إن شئت قراءة تاريخ الحضارات والشعوب ، إن ثروات العالم وعلوم العالم ينبغى أن تكون فى خدمة البشر ، بل أتجاسر بالقول إن الأنبياء والأديان والكتب المقدسة إنما جاءت من أجل الإنسان ومقياس الحضارة فى أى مجتمع هو مقياس احترام الشخص البشرى ، احترام إنسانيته ، جسده ، روحه، عقله ، ثقافته ، ديانته ، ضعفه، عجزه، ولا ننسى أن الإنسان هو «خليفة الله على الأرض» وزيارة البابا لم تكن إلا تعبيرا عن قيمة وكرامة «الشخص البشري» وقيمة تاريخه وفكره وعقيدته . لنعترف بأن هوة لاتزال سحيقة بين الشرق وبين الغرب أو قل بصراحة أعمق، إن العالم الغربى مازال يجهل حقيقة وجدان الشرق ، وان الشرق يجهل حقيقة وجدان الغرب ، فالغرب بعد اجتياح الارهاب مدن الدول الغربية بأسلوب همجى لا هو حرب نظامية ولا هو غزو كاسح بل هو إشاعة القلق والخوف والكراهية ، كما أن الشرق لا يزال يتشكك فى نوابا الغرب ، فالثقة بين الاثنين قد اهتزت بشدة إن لم تكن سقطت أو توارت ويمكن إيجاز الموقف فى عبارة بسيطة أن التحفز والتربص أمر لا يخفى بين الطرفين ، وربما جاءت زيارة البابا إلى مصر قلب العالم الإسلامى محاولة لمد جسور الثقة وإقامة أسس لحوار بناء أو قل لمصالحة عالمية سلامية بين الغرب وبين الشرق، لماذا لا نعترف أيضا بأن العالم قد مل هذا الوضع المأساوى الحزين فى الغرب كما فى الشرق، وأن البشر باتوا يبحثون عن سبيل لرأب الصراع وإزالة الحواجز النفسية والتاريخية بعد أن سقطت الحواجز الجغرافية، لا يمكن أن ننكر الظمأ الحاد والملح للسلام فى الغرب وفى الشرق، وأن على الإنسانية أن تجد سبيلا للتفاهم غير الحروب والدمار، وكيف نقلب صفحات الماضى الكئيب أقصد عصور الاستعمار والاحتلال من جهة وعصور تكفير من يخالفنى فى الإيمان أو العقيدة ، قد تكون زيارة البابا الشعاع الأول لفجر جديد يشرق على الإنسانية ويرسى مبادئ «احترام الشخص البشري» بغض النظر عن لونه وجنسه ودينه وأن تسقط روح الاستعلاء الدينى مع أن الإيمان هبة ونعمة من الله وأن الكفر والإلحاد والبعد عن الدين أمر يخص ضمير الإنسان ويتحمل مسئوليته ونتائجه وحده ، هل نحن مقبلون على عصر جديد يكون سبيلنا كما أشار البابا «اللاعنف» فى كل شئون الحياة ، وأن يكون الحوار ليس معركة جدل فيها منتصر ومنهزم بل الحوار هدفه الأسمى أن أفهم الإنسان الآخر ، وأدخل فى أعماقه وفق كلمة فلسفية «تكلم حتى أراك» إن فى الغرب مادية وإلحادا وعبادة للمتعة بل هناك معابد للشيطان، لكن فى الغرب أيضا قديسون وعلماء وأبطال وعباقرة فى العلوم والفنون والآداب وأن فى الشرق عاطفة دينية جياشة وحماسا روحيا ولكنه لا يخلو من فراغ فى الفكر والنقد والتحليل والقيم الأخلاقية فى الشرق لا تتماشى مع الحماس الدينى ، فالتدين المظهرى شيء والإيمان الحقيقى موقف أخلاقى وما أبعد المسافة بينهما . إن كان البابا قد خطا خطوة واخترق حاجز الإحساس بالغربة بين الغرب وبين الشرق ، على أهل الشرق أن يقوموا بخطوات مماثلة تخترق حاجز التخوف الغربى ، إنى أرى بوادر فجر جديد يطل على البشرية ويدفعها إلى الطريق الأصيل والصحيح ، إن البشر أسرة واحدة ، حاضرهم واحد ومستقبلهم واحد ومصيرهم إلى الله الواحد . لمزيد من مقالات د. الأنبا يوحنا قلته;