لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟, سؤال قديم جديد، قدم السابقون عليه إجابات شتي، لكنها إجابات تم التوصل إليها مباشرة دون طرح أسئلة ضرورية قبلها، وقد فشلت تلك الإجابات لأنه لم يتم التأسيس لها معرفيا بالقدر الكافي؛ ولأنها لم تكن لها خريطة معرفية تقوم على الوعى بالحدود وحساب القدرات بشكل مقارن مع الأمم الأخري، ولأنها لم تبحث فى المنهج وطريقة التفكير، وأسباب الانتقال من عصر إلى عصر. وكانت معظم الإجابات عن هذا السؤال إنشائية تقدم حلولا عامة متسرعة، من قبيل (الاشتراكية هى الحل)، (الليبرالية هى الحل)، (الإسلام هو الحل)، (السلفية هى الحل)، إلى آخر القائمة. وفى كل مرة لا يعلم هؤلاء أن أى حل من تلك الحلول بألف وجه، وأن هناك وجوها تقدمية له ووجوها أخرى متخلفة، وأن أى وجه من هذه الوجوه حتى لو كان متقدما لا يمكن أن ينجح دون عقل بشرى متطور. وبإمكانك أن تأخذ ليبرالية بريطانية وأنظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبإمكانك أن ترجع إلى نموذج دولة الأندلس، أو إلى نموذج دولة العباسيين ذروة تقدمها، أو النموذج الصينى أو اليابانى أو الألمانى أو غيرها، وتعطى أى نموذج من تلك النماذج لعقل به ثغرات معرفية وطرق تفكير رجعية، لكنك لن تنجح! لماذا؟ لأن البذور والمياه والهواء، كلها لن تكفى لزراعة الجنات دون تربة خصبة! ولذا لابد أولا من معالجة التربة وحرثها حتى تكون صالحة للزراعة. وفى حالتنا نحن لابد من تفكيك العقل المصري، ثم التحليل، ثم التوصيف، ثم المعالجة، ثم إعادة البناء. إن تطوير العقل العام المصرى لكى يكون عقلا نقديا يفكر بطريقة سليمة، وإعادة بناء الوعى المصرى لكى يكون وعيا حقيقيا وليس وعيا مزيفا، غير ممكن دون معرفة العقل المصرى لطبيعته وطريقة عمله، وحساب حدود قدراتنا على الفعل بعامة حسابا حقيقيا غير مزيف، بعيدا عن التمجيد الزائف، وبعيدا عن جلد الذات المضخم. فأحد جوانب مأساتنا أننا لا نزال نتأرجح فى تقويمنا لأنفسنا تأرجح البندول بين طرفين متناقضين: إما تمجيد مرضى للذات، وإما جلد مرضى أيضا لها. ولا أريد أن أصل إلى القول إن كلا الطرفين أحد علامات مرض الوعي، فكل طرف يعكس مرضا، وإن كان من نوع مختلف!. فمن أكبر آفاتنا أننا لا نعرف حدودنا ولا قدراتنا فى حجمها الطبيعي. وهذا جزء من طرقنا القديمة فى التفكير التى لابد من نسفها وهدمها من أجل تطوير العقل. وهذه الآفة العقلية ضرتنا ضررا بالغا عبر التاريخ، وعلى سبيل المثال فى حرب اليمن، وحرب 1967 م، فقد رأينا تمجيدا مبالغا فيه وادعاءات قوة لا حدود لها، وعدم حساب قدرات العدو وقدراته الحقيقية حسابا دقيقا، فكانت النتيجة ما يعلمها الجميع! لكن عقب ذلك خفوت الصوت وصعود العقل والحساب الدقيق للقدرات، فكانت حرب الاستنزاف بكل بطولاتها التى استهدفت انتصار الإرادة، وهى الحالة التى صورها فيلم (الممر) ببراعة. فهذا الفيلم يمكن قراءته قراءة عقلية توضح الفرق بين حالتين (قبل) و(بعد)، الحالة الأولى (علو الصوت وخفوت العقل) والحالة الثانية (خفوت الصوت وصعود العقل)، وفى الحالتين كانت هناك إرادة، لكن الإرادة الأولى كانت مؤسسة على العاطفة الجوفاء والصوت العالي، والإرادة الثانية كانت مؤسسة على التخطيط العقلانى وحساب القدرات. وكان العقل يقتضى فى ضوء قدراتنا الرد بهجمات نوعية وليس بحرب شاملة. ثم كانت حرب 1973م بكل ما فيها من عقلانية فى التخطيط وحساب القدرات الفعلية على الأرض والخداع الاستراتيجي. وما الفرق بين 67 و73 إلا فرق فى طريقة التفكير والقدرة على ترجمته إلى واقع فعلى على الأرض. وحتى نستطيع تحويل هذه الحالة العابرة إلى حالة عامة، وتحويل الاستثناء إلى أسلوب حياة، لابد من تطوير العقل المصرى بعامة. والتطوير يمر بمراحل ضرورية، لعل من أهمها ضرورة النقد العقلانى وليس جلد الذات. ويشمل النقد العقلاني: نقد العقل، ونقد المعتقدات، ونقد الوجدان، ونقد طريقة عمل الغرائز، ونقد الأخلاق التقليدية. لكنه ليس أى نقد، بل النقد القائم على التفكيك، ثم التحليل، ثم التوصيف، ثم المعالجة وإعادة البناء. وهذا جوهر التفكير الفلسفى النقدي، لكنه ليس نقدا من أجل النقد، بل نقد من أجل إعادة البناء. والفلسفة الحق ليس مهمتها فقط النقد، بل مهمتها إعادة البناء. والفلسفة الحق ليس مهمتها فهم الإنسان والعالم فقط، بل مهمتها أيضا تغييره. ولا تغيير دون القيام بتحليل صحيح للوعى المصرى وإجراء محاكمة نقدية لطريقتنا فى التفكير بأعظم قدر ممكن من الدقة والموضوعية والصراحة، ومراجعة وتطوير مجموعة الأفكار التى على أساسها نفكر فى أنفسنا وفى الواقع. وكل هذا من أجل أن نصل فى النهاية إلى خريطة عمل يكون واضحا فيها: -الوعى بحدود وطبيعة عقلنا وحساب قدراتنا على الفعل. - آفاق وحدود الأمل الذى يجب أن نتطلع إليه. - ماذا يجب علينا أن نفعل. هذه الجوانب الثلاثة يجب أن تحكم أى خريطة عمل سواء للفرد أو للوطن. ويجب أن يضع كل فرد معالمها فيما يتعلق بشخصه وحده إذا أراد لنفسه تغييرا حقيقيا وتقدما كبيرا فى حياته الشخصية، وأيضا يجب أن يضع معالمها العقل المصرى العام على مستوى الوطن إذا أردنا أن يكون لنا موقع بين الأمم المتقدمة. لمزيد من مقالات د. محمد عثمان الخشت