الموزاييك أو الفسيفساء، فن زخرفى يعتمد على تجميع وحدات صغيرة بسيطة لتكوين شكل أو لوحة كبيرة، جمالياتها لا تقتصر فقط على زخارف جميلة تمتع أنظارنا بل أيضا فيما تعكسه من معان تثرى الروح وتسلط الضوء على جوانب تحفها الظلال فى الحياة. فمن خلال تلاحم وتشابك تلك القطع الصغيرة الجامدة حفظ الفنان القديم حكايات الماضى العتيق وترجم فلسفة حضارات اندثرت ولم يبق منها سوى تلك المنمنمات شاهدا على زمن وبشر ..فهل فيما سبق ما يشى بالحالة نفسها التى يعيشها قارئ أعمال د.حسن البندارى؟ من المعروف أن الفن هو قدرة المبدع على استنطاق ذاته للتعبير عن نفسه أو ما يدور فى محيطه، وأن الكاتب القصصى والروائى يستلهمُ مادته فى الكتابة من خبراته الشخصية وحياة الناس اليومية، وهذا ما نلمسه بوضوح فى مجمل أعمال الكاتب حسن البندراى، فالأحداث أو اللحظات العابرة التى قد لا نلتفت إليها، يلتقطها الكاتب ويوظفها فى بناء من وحى خياله لتتحول تلك الجزيئات الصغيرة لقطع من الفسيفساء تشكل لوحات تنبض بالحياة فى مستوييها، المادى الظاهر والباطن المعنوي. وبرغم أن أعمال الكاتب تشى بأنه على المستوى النفسى مصرى حتى النخاع وأن مادته التى يعمل فيها خياله وفكره مستقاة من واقع الأرض المصرية ويعبر عنها بكلمات مصرية وبعبارات موغلة فى البساطة فرددها فى حياتنا، وأنه ليس واحدا من فريق التغريب المفتونين دوما بما يصدر عن الغرب،إلا أننا نلحظ أن د. البندارى فى مجموعة تغريدة البلبل توسل بالرمز وأغرق فى صور عقلية وصلت أحيانا لحد الهلاوس السمعية والبصرية والقفز بالزمن للوراء والأمام اتساقا مع الجو الشعورى والفكرى لهذه المجموعة، فى محاولة لاستفزاز القارئ ليشتبك مع الحدث ويطلق العنان لخياله وفكره، ليخرج من حالة الاستسلام البديهى للمتلقى الذى تستدعيه الكتابة المباشرة أو اللغة التقريرية. ففى قصة تغريدة الغبار ،على سبيل المثال، يبلغ الرمز مشارف فنية مشعة بالإيحاءات الثرية. فبينما يختنق الراوى بالتراب «أيا ما كان نوعه سواء كان ترابا ماديا ملموسا كغبار الخماسين أو معنويا» الذى غطى كل شيء فى منزله ولا يشعر به الأبناء ولا الزوجة ولا الخادمة ولا الجيران، يصله صوت إسماعيل يس فى الفيلم الذى يحمل اسم البطل مضافا إليه فى مستشفى المجانين، وكأنما هو صنو له،فكلاهما يدرك ما لا يراه من يدعون أنهم عقلاء.. فهذه الثنائية والتناقض بين الحالة النفسية المتأزمة للراوى والفكاهة التى تفجرها المواقف التى يتعرض لها إسماعيل يس الموصوم بالجنون، فتجمع بين نقيضين قلما التقيا، كثفت الموقف بكل دلالاته وكأنما كشفت الأصوات المنبعثة من التليفزيون أزمة الراوي. وفى تقديرى أن قصص مجموعة تغريدة البلبل بثراء بنيتها وتوظيف الكاتب للشكل الرمزى الفياض بالإيحاءات والإيماءات الشعورية والفكرية والدلالة، تمثل لوحات متتالية تعبر عن دورة الحياة. فالتغريدة أشبه برمز يجسد تناقضات وانكسارات الإنسان وأنينه المستمر فى بحثه عن حلم مفقود أو عن مخرج للروح والعقل معاً. فإذا ما توقفنا أمام إبداع البندارى من خلال مجموعة «جوهرة» أو روايتى «صخب الهمس» و«ثلاثية الأحزان»، تتكشف قدرته فى التقاط اللحظة العابرة وتحويلها لحالة بوح لا تعبر فقط عما يدور بنفس الكاتب وخياله وانعكاس الواقع عليه بل أيضا تعكس وعيا إنسانيا وإحساسا بالمستضعفين من البشر وحضورا جاذباً للمرأة يتلمس فيه الكاتب ما هو أبعد من التفاصيل الشكلية لنماذج مختلفة من النساء فى الريف والحضر ليروى حكاوى الوطن. وأخيرا لعل هذه الإطلالة السريعة على مجمل أعمال كاتب رصد تفاصيل الحياة على الجبهة فى أثناء حرب الاستنزاف وحوارات البيوت والمقاهى والحوارى والبسطاء والمثقفين على مدى ما يقرب من النصف قرن، فكشف طبيعة العلاقات المختلفة التى حكمت المجتمع وشكلت أياما وأحداثا باتت جزءاً لا يتجزأ من تاريخ الوطن وذاكرته، تشى بأننا أمام حالة أشبه بجدارية من الفسيفساء شاهدة على زمن وبشر . لمزيد من مقالات سناء صليحة