قبل ثمانى سنوات تقريبا قرأت مجموعة قصصية بعنوان «نوستالجيا» لمبدع عرفه الوسط الثقافي آنذاك كأحد أبرز رواد حركة المسرح المستقل وككاتب ومخرج مسرحي لافت. ففي تلك الفترة كان د.محمود أبو دومة قد قدم ثلاثة نصوص. هي« جاءوا إلينا غرقي والبئر ورقصة العقارب» وأخرج للمسرح «من يخاف فرجينيا وولف؟» لإدوار آلبي في عام 1990، و(مارا صاد) لبيتر فايس عام 1993 ومشعلو الحرائق لماكس فريش، كما أعد عددا من المسرحيات العالمية بصورة شاعرية مبتكرة، منها فاوست «جوته» و«بيت برنارد البا» و«كولاج» عن حياة وأعمال سترندبرج، إضافة لإصداره عددا من المؤلفات النقدية منها (علي خشبة المسرح) و(تحولات المشهد المسرحي) وتبنيه عددا من المبادرات الثقافية في صعيد مصر وفي الثغر، كان الهدف منها التدريب علي الكتابة الإبداعية وفنون الأداء المسرحي. في ذلك الحين كان من أهم ما استلفت انتباهي في مجموعة «نوستالجيا» قدرة الكاتب علي تطويع اللغة العربية للوصول لفضاء لغوي يعكس الحالة الشعورية ويكشف حقيقة الوجوه والأماكن ويشف عن روحها وعن الحالة الشعورية للكاتب عبر مفردات عامية صعيدية امتزجت بلغة فصحي سلسلة مُحملة بعبق رائحة الوادي الضيق وصلابة صخور الجبال الحارسة للنهر وحرارة الشمس. فعبر سبعة نصوص قدم د. أبو دومة مشاهد حافلة بالدلالات بدت أشبه برحلة للبحث في ألواح غامضة للملمة شظايا ماض وزمن ظل كامنا في زاوية بعيدة في نفس كاتب ارتحل للشمال واستقر به مثل كثير من أهل الجنوب، فجاءت سطور مجموعته الأولي لتجسد تجربة الانقسام بين تغريبة مادية وأخري شعورية يعايشها أبناء الجنوب في ذهابهم و رواحهم وكأنما عويل النداهة «وعد ومكتوب»!!..تخايلهم في مهجرهم في الشمال صور من ماض يقتلهم الحنين إليه وتشاكسهم في الموطن ومسقط الرأس في الجنوب مخايلات الحياة في الحضر وأبواب رزق عثروا علي مفاتيحها عندما حملهم «الوابور» المبحر وليس «المجبل عالصعيد».... وفي روايته الجديدة « عتب البيوت» وبعد تجربة الوقوف علي حافة البرزخ، وبعد أن تساقط أحباب يصعب تصديق فقدانهم، وبعد أن تغيرت الدنيا وخلفت الأحلام موعدها وتحول كل شيء لموال حزين، يستكمل أبو دومة ما بدأه في مجموعته القصصية «نوستالجيا» التي حول بعض قصصها لأعمال مسرحية قبل سنوات..يبحر في ميراث طويل من لحظات الشجن والألم والأفراح القليلة فينطلق لفضاء رحب تتحول فيه السطور لأتون من التداعيات ولارتحالات لإعادة بناء ماض يستنطق فيه الكاتب جدران وبوابة بيت العمة «وصال» وعتبات كل البيوت التي يسترجع شخوصها في صور محكية، فيشعر قارئها والمستمع لها بلفحة لهب فرن العمة «عيشة» ويشم رائحة العيش «الخمران» وقهوة الحاجة «معالي» وشجرة الفل التي جفت ويلمس ضفائر الحاجة «عوالي» ويري الكحل يحيط بعينين كل فيهما البصر بعد وصفة تقليدية، وربما يئن فيما يرقب جثمان «دولت» التي أحبت فكان مصيرها الموت،أو يرهف السمع لعويل «فرنسا» المنبعث من بين أنقاض بيت سليمان الذي انهار فجأه، فطمرت الأنقاض مظالم وشكاوي وميزان عدل محفور علي الجدران اختفي مثلما اختفت ربيبة العمة «عوالي».... في «عتب بيوت» محمود ابو دومة وحكايات أحفاد سيدي سليمان الكبير، يعايش القارئ واقع عالم اندثر وحلما هاربا لا وسيلة لاستعادته إلا عبر مرآتين أولاهما خارجية تعكس الزمن والواقع والمكان والثانية داخلية، تجسد المشاعر وما حفرته الأحداث من أخاديد علي جدران الذاكرة. وعندما تتداخل المرآتان تتولد حكاية تُذكرنا مفردات عاميتها الصعيدية وبنائها الغرائبي بحكايات ألف ليلة وليلة وبشاعر الربابة ومواويل «الصَيٍيٍته»، فتستعيد لحظات هاربة مُنسحبة ثرية بالدلالات، تطلق العنان لخيال القارئ وتكسر الصوت الأحادي. فمن خلال رواية الحدث بأكثر من صوت فتصبح الحكاية وسيلة لإيقاظ الوعي والبحث في نسق ثقافي تجمعت فيه الهوية الفرعونية والقبطية والإسلامية، ونقد منظومة قيم موروثة تُنكر الحب و تُعلي الشرف دون أن تحدد مفهوم أو حقيقة أي منهما!!.. علي عتبات أبو دومة حكايات عن الصعيد وعن مصر الجديدة وعتاب بيوت مهجورة..عن أحلام لم تف بالوعد.. عن مركز ثقافي تحول لمنفذ لبيع الوجبات السريعة.. صور من ماض ترك بصمة علي حاضر مأزوم، قدمها الكاتب بلغة صافية رقراقة مستمدة من معجم شعبي شديد الثراء حولت السرد المكتوب لحكي درامي يكاد يكون مرئيا مسموعا.. لمزيد من مقالات سناء صليحة