محمود الورداني صاحب مشروع سردي قصصي وروائي متميز، له خصوصية لافتة، يشغله هاجس الإخلاص التام للكتابة، وكيف يقطر رؤيته للواقع جماليا في كل نص جديد. هنا أستعرض رؤيتين لمحمود الورداني يفصل بينهما ما يقرب من ربع قرن تتجليان في "رائحة البرتقال" (1992) و" البحث عن دينا" (2016). حصار اللا معني في رواية "رائحة البرتقال" يبدو السرد في رواية "رائحة البرتقال" (1992) عبارة عن مروي لمجمل أحداث مطاردة كابوسية يتعرض لها الراوي، الذي يظهر علي امتداد السرد حاملا طفلا وليدا، يتبين أنه طفلة أنثي، يحاول النجاة بها، ومعها من خطر غامض مهدد. ويتسم السرد في الرواية كلها بسرعة الإيقاع والتلميح والتداخل، شأن الأحلام القلقة المتوترة، حين تتوالي أحداث منفصلة، وشذرات من أزمنة وأمكنة، ولمحات من شخصيات عابرة أو رئيسية، تظهر كي تختفي، ثم تعاود الظهور والاختفاء. ولا يحكم السرد في هذه الحالة المنطق السببي المتعارف عليه، وإنما نجد دفقا مندفعا لذاكرة الحواس اللاهثة بفعل المطاردة، والبحث المتواصل عن معني غائب أو حقيقة غائبة، في الوقت الذي يبدو فيه كل شيء وقد فقد هويته الأصلية ودلالته المختزنة في الذاكرة. وعلي حين يتخذ السرد شكل حركة دؤوبة للراوي المطارد، تتجسد فيما تلتقطه الحواس من حقائق مادية ملموسة للمرئيات، فإن تلك المرئيات نفسها تبدو لعين الرائي مخاتلة، متغايرة الخواص، غير ثابتة أو محددة المعالم. وتنفلت المرئيات طوال الوقت من قبضة الحواس التي تحاول تعرفها والركون إليها، كي تدلف إلي سديم معتم تتداخل فيه الصور، ولا تكف عن انتحال صفات غير الصفات التي بدت عليها أول الأمر. في هذه المنطقة السديمية الغائمة تصبح الذات الرائية بغير دليل أو هدي، لكنها برغم ذلك لا تكف عن الحركة والبحث والانتقال من مكان إلي مكان، والتوقف أمام أحداث الماضي القريب، يحاول الراوي أن يستجلي فيها المعني الذي ما يزال في حاضره مستعصيا علي الجلاء. ولا يقتصر الأمر علي أن يصبح غياب المعني معادلا للعبث واللا جدوي، بل إنه يصبح مهددا بسلب مقومات الحياة ذاتها، تلك الحياة الهشة مثل حياة الكائن الوليد (الطفلة) التي يحملها الراوي طوال الوقت، والتي تموت في النهاية. وفي مثل هذا السياق الحلمي الكابوسي تسترجع الذاكرة شذرات من أحداث الماضي القريب، ويتمثل في الرواية في حقبة السبعينيات وما بعدها. وتتداخل وتتقاطع شذرات زمنية تحيل إلي أحداث عامة، شهدها الوطن في تلك الحقبة، مع شذرات زمنية أخري تصور محنة الراوي المطارد، الباحث في الوقت نفسه عن معني أو حقيقة غائبة، يمكن أن ينافح بها اللا معني أو الموت العبثي الماثل طوال الوقت. ومادمت قد ذكرت أن الزمن في الرواية يتبع التفتت والتجزؤ، فلابد أن نتوقع ألا تتوالي أحداث حقبة السبعينيات وفقا لتعاقبها التاريخي المعروف، فنجد استباقا أو تأخيرا أو تزامنا للحظات زمنية تتمثل في صور متناثرة، يقوم الراوي بتركيبها فيما يشبه المونتاج السينمائي، بحيث يمكن لبعض الصور أن تحيل - بتركيبها الخاص - علي بعضها الآخر. وعلي نحو ما تتداخل أزمنة الأحداث العامة التي يسترجعها الراوي، محاولا التوصل إلي حقيقتها أو معناها، فإن أزمنة الذاكرة الشخصية تتداخل أيضا لديه وتتقاطع بصورة مماثلة. إنه يلتقي بشخصيات متعددة يشعر أنه يعرفها معرفة حميمة، لكن هذه الشخصيات تبدو في صور متباينة، لا تكف عن التحول، فلا يستيطع الراوي تحديد هويتها الحقيقية. لكن الراوي ما أن يتبين علامات المكان حتي يدرك أنه قد ضل الطريق، فيعود أدراجه أو يتساءل عن جدوي العودة. إنه يكتشف أن المعالم الأليفة التي تلتقطها حواسه بوصفها صفات محددة للمكان، لا تربط ذلك المكان نفسه بدلالته في الذاكرة، من حيث إنه علامة علي الوصول إلي حقيقة مؤكدة، كوجود بيت يعرفه أو الأشخاص الذين يبحث عنهم، فيقول: "ما الفائدة في تعرفي علي هذا المكان أو ذاك مادمت لا أستطيع أن أحدد بالضبط أو علي أي نحو، علاقته ببقية الأماكن." وتتوالي الأمكنة الأليفة التي فقدت خواصها ومعالمها، ولا يكاد يتناظر غياب معالم المكان لدي الراوي إلا مع غياب ملامح الشخصيات، خصوصا المرأة التي يفقدها مرات متعددة. حس الفقد واحد ومتكرر في الحالات كلها، وليس هناك غير فخاخ منصوبة دوما. يقول الراوي: " ما أن تنجح في الفرار من أحدها حتي يتسلل إليك الآخر، لا تدري من أي طريق تسلك." لقد أشرت فيما سبق إلي الراوي بوصفه الشخصية الرئيسية التي يتم من خلال منظورها استقبال أشياء العالم والعلاقات التي تربطها، بل لنقل تفكك العلاقات بين الأشياء والموجودات، وتفتتها وانقسامها وتداخلها بصورة مستمرة. شك وحيرة وتساؤل دائم. دوامات ومتاهات لا تنتهي ولا تقود إلا إلي اللا معني العبثي. وفي مواجهة ذلك كله يظهر الراوي مدفوعا بحافز إيجابي نشط، يحاول اختراق هذا الحصار. فالدلالة الكلية للنص الروائي إذن تتمثل في مواجهة اللا معني العبثي بمحاولة العثورعلي المعني. لكن الكاتب لا يلجأ إلي التجريد الذهني الفلسفي لتجسيد هذه الدلالة، وإنما يجسدها عن طريق الحواس. أنه ينقل المرئي في حدود ما يسمح به النظر، وينقل المسموع في حدود ما يسمح به السمع، ويقتصد في استخدام المجازات اللغوية كي يصبح التعبير خاليا من الزخرف اللغوي الفارغ، وتصبح العبارات عارية من حمولاتها الأيديولوجية المضللة. ولعل أهمية هذا العمل الروائي تتمثل أساسا في نجاح الكاتب في استخدام هذا المنحي في التقنية. إنه الراوي الرائي الذي تختلط أمامه المرئيات، والشاهد المحايد الراصد والمسجل لما حدث من تفكك علي مستويات عدة في المجتمع خلال الحقبة الزمنية التي يتناولها العمل. إن ذلك التفكك يكاد ينال خصائص الهوية بجوانبها الشعورية والفكرية معا، بدءا من الحواس التي لم تعد وسيلة معرفة يقينية، وانتهاء بالنظم المعرفية السائدة. لكن هذا التفكك نفسه يتضام ويتلاحم في بناء فني محكم، تتضافر عناصره في رواية "رائحة البرتقال" كي يصبح واقعا فنيا موازيا للواقع الفعلي. هل وجد الورداني المعني المفقود في " البحث عن دينا"؟ في رواية " البحث عن دينا" يبدو الورداني وكأنه بدافع المعايشة الحميمة لتجربة الثورة أو بدافع الصدق الفني يريد أن يستثمر إنجازه الأدبي السابق، فيضيف إليه تحولا جديدا، وكأنه يستبطن المقولة التي تذهب إلي أن الأحداث الوطنية الكبري، وما يصاحبها من تحولات تزعزع كل شيء، بما يتضمن أيضا الأشكال الأدبية السائدة أو التجريبية السابقة حتي لديه هو نفسه في رواية مثل "رائحة البرتقال"، لذلك فإن رواية "البحث عن دينا" تعلن تمردها علي توقعات القارئ التقليدي، كما تقتضي من القارئ المتابع لمحمود الورداني تهيؤا جديدا. قرأ الورداني أحداث ثورة يناير من موقع المشارك في وقائعها اليومية، وكتب رواية توثيقية لهذه الوقائع التفصيلية الحية في إطار فانتازي، مستدعيا في الوقت نفسه جانبا من ماضيه النضالي، مازجا كدأبه في "رائحة البرتقال" بين أزمنة متداخلة، تظهر في إشارات متواترة منتزعة من سياقها الزمني إلي أحداث في سبعينات القرن العشرين زمن السادات، مثل اعتصام طلبة جامعة القاهرة، تسبقها أو تلحقها أحداث ماض أقرب وقع في السنوات الأخيرة لحكم مبارك، فضلا عن زمن أحداث الثورة، تتخلله استباقات زمنية تشير إلي ما سيتكشف عنه الحدث بعد حين. الرواية أيضا تبدو في مستوي من مستوياتها سيرة ذاتية للراوي العليم أو السارد الأول الذي هو قناع، لا يكاد يخفي وجه الكاتب الفعلي المتمرد والمناضل القديم المخذول، الذي كان يحاول حصار العبث واللامعني في "رائحة البرتقال". وكذلك تبدو الرواية في مستوي آخر وكأنها تدير حوارا مع ذاكرة المكان القاهري العتيق الذي شهد أحداثا وطنية سابقة، فتصبح المساجد والحواري الشعبية والأضرحة والساحات والميادين شهودا قديمة وجديدة علي أحداث الثورة، فيما تسجل هذه المرة تاريخا غير مسبوق. هذه الأماكن كما وصفها السارد: " شهدت خلال عامين ما أطاح صوابي، ذلك أنه لم يتحقق علي مدي ما يزيد عن أربعة عقود خلت أي تغيير أو حتي وهم بتغيير." من هنا كان طموح الكاتب هو أن يقدم سردية مجاوزة لطموحه الأدبي في أعماله السابقة، تستجيب لأحداث لم تشهد مصر مثيلا لها في تاريخها القريب، أحداث كشفت عن وجه "مصر الصابرة" علي امتداد عقود، وحركت أمكنتها القديمة والحديثة مثل ميدان التحرير والشوارع المحيطة من سباتها الطويل علي وقع مظاهرات، أيقظت روحها المتمردة، حيث صارت للأمكنة أصوات وللبشر أجنحة. أما دينا، الفتاة الجريحة، منزوعة الأجنحة، فتجمع بين التجسيد والتجريد ( هل هي الطفلة الوليدة التي كان الراوي يحملها في " رائحة البرتقال" مخترقا بها متاهات الخوف واللامعني، وقد استوت هنا بعد ربع قرن في هيئة دينا؟ ) دينا هنا شخصية روائية موجودة وحقيقية، ينقل عنها الراوي، ويتحدث بلسانها، وهي تتألم من جرح نازف لم يلتئم، هي تتذكر، وتحب الآخرين، وتشارك الراوي حب من يحب. إنها أناه الأخري التي يبحث عنها علي امتداد الرواية، هي كالابنة، لكنها أيضا شقيقة الروح الثائرة أو توأمها اللصيق، تحفز ذاكرة الراوي كلما وهن إيقاع تذكر ما حدث ويحدث، وتحثه علي تسجيل الوقائع. دينا أيضا استعارة موسعة ورمز للثورة المثخنة بجراح نازفة في الميادين، وأرواح الشهداء المحلقة في السماء فوق الجميع بأجنحة بيضاء، تُذَكّر بأجنحة دينا المنتزعة. أما البحث عن هذا الكائن المجسد المجرد، فيحدث تداخلا بين حالات الوعي واللاوعي، وحالات الحضور والغياب، فيلتحم الراوي من خلالها مرة بالحضور ومرة بالغياب، ولكنه لا يكف عن التفاعل مع الأحداث في كل الأحوال. نستطيع أن نقول إن دينا - في وجه من وجوهها - تقوم بدور الذاكرة الوطنية، هي أيضا صوت الضمير أو الصوت الداخلي، والدافع القوي المجسد لعملية التذكر، واستعادة تفاصيل وقائع الثورة، والتأكيد علي حضور تأثيرها واستمرارها حتي بعد انقضاء وقائعها. لقد أراد الورداني أن يجعل من ثورة يناير بطلا روائيا مُجَسَّدا ومتعينا باسم دينا في عناوين الفصول، وفي استدعاءات السرد، لكنها أيضا تستعصي علي التعيين، إذ تتسرب إلي ذاكرة المكان، فيحضر نجيب محفوظ في المظاهرات وإلي جواره يوسف إدريس وشهدي عطية وأروي صالح، وشهداء الثورة وغيرهم من الأحياء مثل صديق البطل الفنان محمد شهدي، والمدون أحمد البحار الذي يروي لحبيبته علي " الفيس بوك" ما لم تشهده من وقائع الثورة، كما يحضر أجدادنا الفراعنة في عرباتهم الحربية، يصاحبهم شباب ورجال ونساء من مختلف الأعمار، يواجهون جميعا في المظاهرات قنابل الغاز المسيل للدموع بقطع قطنية مبللة. الجميع يلتقون ويتوحدون بالجماهير المتدفقة، وهتافات الشوارع، ورسوم الجرافيت علي الجدران، وبأنين قديم تحتفظ به أيضا ذاكرة المكان. هكذا تبدو الثورة التي تمثلها الأنثي المجنحة، منزوعة الجناحين، أفقا سرديا يبتكر الورداني من خلاله نوعا من الواقعية التسجيلية العجائبية، ينفتح عبرها النص علي أزمنة مصر القديمة والحديثة ليصبح فضاء روائيا يجمع بين المتناقضات، قبل أن يشوبه كثير من الالتباس وفقدان لليقين. وعلي الرغم من ذلك يقول الورداني في مقدمة مجموعته القصصية " الحفل الصباحي": " لدي يقين أن أهم ما أضافته الثورة إلينا هو إلحاق الهزيمة بالخوف، واستبدال الجسارة والجرأة والخيال الجديد الشاب به، ومهما جري... إلا أن الحقيقة المؤكدة أننا هزمنا الخوف." وأخيرا، ليست رواية " البحث عن دينا" رواية تفتتح أفقا سرديا جامعا بين الواقعية والتسجيلية والعجائبية فحسب،ولاهي شهادة توثيقية لأحداث الثورة فحسب، وهي كذلك ليست حكاية المناضلين والشهداء والإحساس بافتقاد اليقين وهيمنة الشك فحسب، وإنما هي إلي جانب ذلك كله تعد شكلا من أشكال ترميم الذاكرة المعرضة للنسيان، وهي انتصار بهي للرمزية الكبري: روح الثورة، وضمير الوطن الذي يظل ماثلا فينا حتي وإن بدا ساكنا إلي حين، كما تتجلي في الرواية طاقة الخيال في أكثر صورها تماهيا مع التاريخ القريب، وتطويعا له لبناء سردية تجريبية طليعية، تتكئ علي لغة سلسة حية شفافة، تمزج الواقع بالخيال العجائبي، فتنبت ل"دينا" ولنا أجنحة جديدة تطير بنا في سماء الفن.