في روايته القصيرة "البحث عن دينا" (2016)، الأقرب إلي روح النوفيلاNovella التي تبلغ بالكاد 123 صفحة، استطاع محمود الورداني، صاحب "النجوم العالية" و"في الظل والشمس" و"رائحة البرتقال" و"الروض العاطر" و"بيت النار"، وغيرها من أعمال قصصية وروائية، تحويل سرديّته الذاتية/الواقعية، القادمة من رحم أحداث السبعينيات المتخمة بالأحلام والطموحات والثورات المجهضة، إلي واقع قصصي ينمو ببطء، كالعشب، في المساحة البينية الواقعة بين المتخيّل الروائي والواقعية التسجيلية. تلامس الرواية الصادرة عن الكتب خان ، في جوهرها، روح النوفيلا المشحونة بالأحلام والكوابيس، القادرة علي إلقاء حجر مدبّب في بركة الواقع السياسي المصري المضطرب منذ سنوات. ومن جهة أخري، فهي نوفيلا في تكثيفها السردي واختزال مشاهدها المشحونة بتراجيديا الفعل الدرامي وإيقاعه اللاهث، وغير ذلك من صفات نص روائي يتسق مع ثيمته الرئيسية؛ أقصد إلي ثيمة "البحث" تحديدا، التي استطاع الكاتب من خلالها إعادة تبئير کefocalization، أو إعادة صنع سياق مرجعي جديد کecontextualization لثورة يناير 2011 في إطار الثورة المصرية المجهضة علي مدار أكثر من أربعين عاما؛ أي منذ السبعينيات تقريبا. ليست "دينا" في فضاء هذه الرواية مجرد شخصية روائية عابرة، أو كائن من ورق علي حد تعبير بارت، بل هي تمثيل ثقافي واجتماعي لفكرة "الثورة النبيلة"، كما أن فقدانها جناحيها، اللذين انتُزِعا منها انتزاعا قسريا بفعل فاعل يؤول إلي مَن التفّوا علي الثورة، أو "ركبوا موجتها" بالتعبير السياسي الدارج في الشارع المصري؛ أمر قد حال بينها وبين التحليق في سماوات الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، فأمست دينا -ومعادلها الثوري "مصر"- كائنا مقيَّدا، مشدودا إلي واقع متدنٍّ، تائه بين ميادين القاهرة وشوارعها وحاراتها التي تحيط بميدان التحرير، خصوصا شارع محمد محمود الذي أصبح جزءا لا يتجزّأ من أيقونة الحرية المفقودة. أما جناحا دينا فليسا سوي رمز دالّ علي شخصية مركّبة، ذات أطياف، تجمع بين قدرتها علي الظهور والاختفاء، الحضور والغياب، كطيف هاملت الذي ظلّ يؤرّقه طويلا حتي آمن به وانتقم لأبيه المغدور به. من جهة مقابلة، يشترك الراوي مع دينا في كونه يشبهها في امتلاك جناحين مثلها، لكنهما انتُزِعا منه أيضا. إن قيمتي الحرية والعدل اللتين صوّرتهما قصيدة "الكعكة الحجرية" لأمل دنقل هما جناحا دينا اللتان كانت تمتلكهما وفقدتهما في تلافيف الثورة المصرية. وهنا، تستدعي الرواية تظاهرات الطلاب وأحداث الكعكة الحجرية التي كان تضم كلا من أمل دنقل ومحمد شهدي وأحمد رزّة ورضوان الكاشف، وغيرهم كثيرون وكثيرات من قيادات انتفاضة السبعينيات الذين حضروا في ثنايا الرواية كأطياف متتابعة. وليست "الكعكة الحجرية" حاضرة، هنا، بأطيافها، ودلالتها الرمزية فحسب، بل بوصفها نصا موازيا Paratext لا يجب استبعاده في مستوي القراءة الثقافية. ليس بحث الراوي-الشخصية عن دينا، وهو مسعي المؤلف الضمني والمؤلف الحقيقي أيضا، فعلا مرهونا بشخصية دينا في حد ذاتها، بل بما تمثّله من فكرة نبيلة ظل تراوده منذ تشكّل وعيه في أحداث السبعينيات، ولما تتحقّق بعد. لذا، تظل الصورة السردية الأثيرة، والأكثر تواترا في فضاء الرواية، هي صورة "الكائن ذو الجناح الوردي". وما بين حقبتي السبعينيات وزمن السرد؛ أي حوالي 40 عاما من الأحداث والمشاهدات والرؤي، تنمو أحداث الراوية، وتتراوح مكاناتها، التي تمتاح مادتها الخام من وقائع سياسية راهنة، يتم تسجيلها بما يؤكد إمكان تحويل الوقائع Factions ذاتها إلي متخيّل قصصي Fiction يضرب علي وتيرة الزمن المفقود. "البحث عن دينا" رواية مشحونة بنبوءة التّيه الذي دخله المصريون في أعقاب ثورة يناير، كما أن بها إدانة حادة ل"الثورة النيّئة"، التي لم تتكشف بعد عن خارطة مستقبل واضحة، فقفز عليها من كل صوب وحزب انتهازيون ومتسلّقون وبراجماتيون سياسيون، رغم كون الثورة في ذاتها فعلا جماهيريا نبيلا، يبشّر بنهضة واعدة تنتظرها شعوب مغلوبة.