كان المهاتما غاندى ولا يزال الرمز الأبرز لمقاومة الاحتلال بالطرق السلمية، فلقد ابتكر غاندى قبل ما يقرب من قرن من الزمان أسلوب المقاطعة الاقتصادية لبضائع الاحتلال من أول الملح حتى المنسوجات القطنية، وألحقت مقاطعته خسائر فادحة ببريطانيا حتى اضطرت للانسحاب من الهند فى عام 1947. ألهم أسلوب غاندى العديد من الحركات التحررية لاحقا، وأصبح نموذجا مشرّفا درَسناه ودرّسناه لكيفية حصول الشعوب على استقلالها دون إراقة الدماء. لم يقل أحد يوما عن حركة غاندى إنها كانت حركة عنصرية ولا وصفها أحد بأنها معادية للمذهب البروتستانتى أو الدم الأزرق، فما بال هناك اليوم من يصف حركة مقاطعة بضائع إسرائيل بمعاداة السامية؟ فى السابع عشر من هذا الشهر وافق البرلمان الألمانى بالأغلبية على المشروع الذى تقدمت به الأحزاب الأربعة الكبرى ويقضى باعتبار حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات(BDS) حركة معادية للسامية، ومقتضى ذلك ألا تحصل على أى دعم مالى من الحكومة الفيدرالية الألمانية وألا يحّق لها استخدام الفضاء العام من أجل وضع منشوراتها وممارسة نشاطها. واستند المشروع إلى أن شعار لا تشترى الذى تستخدمه حركة (BDS) إنما يشبه شعار لا تشترى من اليهود الذى كان يرفعه النازيون. وكان العام الماضى قد شهد تعبئة سياسية فى عدد من الولايات الألمانية - بما فيها العاصمة برلين - من أجل وصم حركة (BDS) بمعاداة السامية، على أساس أنها تنكر حق إسرائيل فى الوجود وتصف دولة إسرائيل ككل بالعنصرية، بل أكثر من ذلك قيل إن الحركة تضر بالمصالح الاقتصادية الألمانية لأنها تدعو لمقاطعة البضائع الإسرائيلية وبعضها مستورد من ألمانيا. عقب قرار البرلمان الألمانى أصدر ستون مثقفا إسرائيليا ويهوديا من دول مختلفة بيانا مهما تحت عنوان ال BDS لا تعنى معاداة السامية، فهذا البيان ينطبق عليه القول الشهير وشهد شاهد من أهلها. فى البيان يبدى الموقعون قلقهم من صعود ظاهرة نمو العنصرية والتعصب فى ألمانيا ويدعون الحكومة والبرلمان لمواجهتها، لكن فى الوقت نفسه فإنهم يحذرون من تزايد الاتجاه لتصنيف مؤيدى الحقوق الفلسطينية باعتبارهم معادين للسامية، ويرفضون الخلط بين نشاط الحركة ومعاداة السامية، لأنه يحمل تهديدا للنظام الديمقراطى الليبرالى فى ألمانيا. ويحرص الموقعون على توضيح أن لهم مواقف مختلفة من حركة ال BDS فمنهم من يؤيدها ومنهم من يعارضها، لكن جميعهم يرفض تصنيفها كحركة معادية للسامية ويدافعون عن حق كل فرد أو منظمة فى تأييدها. ويزيد الموقعون بالقول إن إسرائيل والمجتمع الدولى يصران على ألا يستخدم الفلسطينيون العنف لرفع مطالبهم، وحركة ال BDS هى حركة غير عنيفة ترفض كل أشكال العنصرية ومعاداة السامية وتنشط من أجل وقف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان الفلسطينى وتطبيق القانون الدولى. وأخيرا يدعو الموقعون الأحزاب الألمانية صاحبة المشروع للتراجع عن موقفها، ويأملون فى عدم حرمان حركة (BDS)والمنظمات المؤيدة لها من الدعم الحكومى. جدير بالذكر أن المعنى نفسه الذى تضمنه البيان عبرت عنه كاتبة إسرائيلية فى مقال نشرته جريدة هاآرتس وترجمته جريدة الشروق المصرية قبل عدة أيام. البيان السابق كما هو واضح يرفض تحميل مسئولية تصاعد معاداة السامية لحركة (BDS)، وهو محق فى ذلك، لأن معاداة السامية هى إحدى نتائج صعود التيارات اليمينية فى مختلف أنحاء العالم، فتلك التيارات تكره الأجانب: اليهود منهم وغير اليهود حتى وإن حملوا جنسياتها، وليس أدّل على ذلك من تزايد العداء تجاه المسلمين واستهدافهم بسلسلة من الاعتداءات أبشعها اعتداء نيوزيلندا الأخير، هذا من جهة. من جهة ثانية فإن حركة (BDS) تدافع عن ثلاثة أهداف رئيسية هى إنهاء الاحتلال لأراضى 1967 وعودة الفلسطينيين المُهجّرين بعد 1948 وإنهاء كل مظاهر التمييز والعنصرية ضد الفلسطينيين، وجميع تلك الأهداف محكوم بعدد معتبر من القرارات الدولية، وتسعى الحركة لتحقيق أهدافها باستخدام أدوات، أبرزها أداة المقاطعة الاقتصادية وهى نفس الأداة التى يستخدمها الاتحاد الأوروبى بحظره شراء منتجات المستوطنات الإسرائيلية. وهكذا فإننا إذا سلّمنا بأن حركة (BDS) هى حركة معادية للسامية لكان علينا أن نُسّلم بأن الاتحاد الأوروبى هو الآخر معاد للسامية، فهذه مقاطعة وتلك مقاطعة، ولافتة لاتشترى تُرفَع على الجانبين، فاتساق المواقف مطلوب. إن حركة (BDS) تعد واحدة من أهم مكونات حركة المقاطعة الفلسطينية، وهى حركة عابرة للحدود والأيديولوچيات السياسية، وقد نجحت رغم عمرها القصير فى أن تثبت نفسها على الساحة الدولية رغم الآلة الإعلامية الجبارة للوبى الصهيونى التى تعمل فى مواجهتها، ومن تابع منا المعركة التى خاضتها الحركة قبل أسبوعين ضد إقامة مهرجان الأغنية الأوروبية فى إسرائيل يدرك ذلك جيدا، فلقد استماتت الحركة لمنع استضافة إسرائيل هذا المهرجان، وحوّلت المسألة إلى قضية رأى عام على المستوى العالمى، ومع أنها لم تتمكن من منع إقامة المهرجان فى إسرائيل إلا أن بعض كبار الفنانين وبعض الفرق الموسيقية المشهورة رفضوا المشاركة، ورُفِعَت شعارات فى عدة عواصم أوروبية تدعو لعدم مكافأة سياسات الاحتلال ولا مساعدتها على تجميل وجهها. فبأى منطق نُجرّم هذا النشاط ونصفه بمعاداة السامية؟ إذا كان من حق اليهود أن يستحضروا ذكرى المحرقة فى كل مناسبة ويفرضوا على ألمانيا وكل أوروبا ممارسة جلد الذات، فمن حق كل المؤمنين بعدالة القضية الفلسطينية أن يتمسكوا بأن دولة يهودية القومية هى دولة عنصرية بامتياز. لمزيد من مقالات د. نيفين مسعد