خلال مراسم افتتاح مسجد الفتاح العليم، وكاتدرائية ميلاد المسيح بالعاصمة الإدارية الجديدة، تم عرض فيلم تسجيلى قصيرعن براءة الأطفال وفطرتهم الدينية بعنوان «إيه الفرق بين المسلم والمسيحي»، وتمحورت الأسئلة التى وجهت إليهم حول مفهومهم للدين والله وللآخر المختلف عنهم. وبقدر ما كانت إجابات هؤلاء الأطفال عفوية معبرة عن فطرة إنسانية نقية ظلت كما خُلقت، بقدر ما كشفت عن الفرق بين التعرض للصور النمطية وتشكيل الانحيازات وبين عدم التعرض لذلك وتأثير ذلك على النظرة للآخر وممارسة التمييز أيا كان نوعه. لا يقتصر تأثير التعرض للصور النمطية وتشكيل الانحيازات الواعية أو اللاواعية فقط على ممارسة التمييز على أساس دينى أو اجتماعي، بل أيضا يقف ذلك كحجر عثرة فى كثير من الأحيان أمام قدرة الفرد على الانفتاح لتقبل أفكار وآراء قد تكون مختلفة عن قناعاته بسبب انحيازاته التى تم تشكيلها مسبقا، بل وقد تدفعه أحيانا لمعاداة أى فكر جديد دون بحثه ونقده. فهناك تحيز اعتقادى يظهر عندما يقوم الناس ببناء استنتاجات خاطئة بناء على اعتقاداتهم المتبناة. فمثلاً، قد يظن البعض أن كل من يستخدم الخطاب الدينى ويبدو الورع والتقوى على مظهره الخارجى هو بالضرورة عالم دين، وكل ما يقوله «مقدس» ولا يجوز نقده، وأيضا عندما يرفض أحد دليلا يتناقض مع وجهة نظره أو ادعائه حتى وإن كان الدليل صحيحا فهو هنا يستسلم لتحيزاته، وعندما يمارس أحد التمييز ضد النساء فى العمل لمصلحة الرجال رافضا الاعتراف بذلك، وكذلك تحيز آخر تزداد معه احتمالية اقتناع الشخص بفكرة معينة كلما ازداد عدد الأشخاص الّذين يتبنونها.وهذا أحد أهم مظاهر التفكير الجمعى فى مجتمعنا. غالبًا ما تعمل التحيزات بطرق خفية، فهى تتسلل عبر الباب الخلفى لضميرنا ، وشخصيتنا الطيبة ، وأعلى قناعاتنا العقلانية ، وتصيبنا بالتردد بين ما نعتقد من نكونه وكيف نتصرف، وتلعب الصور النمطية التى نتعرض لها دورا فاعلا فى تشكيل تلك الانحيازات سواء كانت سلبية أو إيجابية. والصور أو القوالب النمطية هى مجموعات من سمات عامة للغاية مرتبطة بأفراد مجموعة اجتماعية، مع الإشارة إلى أنها تنطبق على جميع أعضاء المجموعة. وهناك عدد كبير من الكتب تناول تلك الظاهرة وكيف تتشكل على المستوى النفسى والاجتماعى والمعرفي، لعل أشهرها كتاب «النقطة العمياء»، فى إشارة إلى نقطة التحيز العمياء التى يمتلكها عقل كل منا وهي انحياز معرفي يتضمن إدراك تأثير الانحياز على أحكام الآخرين، والفشل (فى نفس الوقت) فى رؤية تأثير الانحياز على أحكام الفرد ذاته. الأمر الذى طرح على العلم عدة تساؤلات : هل الصور النمطية عاطفية أم معرفية؟ هل هم فى عقول الأفراد أم فى البيئة الثقافية؟ هل تسبب أو ترشد التمييز بين المجموعات؟. ينشأ الناس ضمن ثقافة ومجتمع ما ويتواصلون داخل الشبكات الاجتماعية. وهكذا ، فإن الارتباطات النمطية الضمنية التى يتم التقاطها من قِبل الفرد لا تعكس تحيزًا إدراكيًا فحسب، ولكن المؤثرات والقيم المنتشرة فى ثقافتهم تلعب دورا فى تشكيل تلك الارتباطات.ثم تقليديًا ومع تكرار حدوثها تصبح ثابتة فى الذاكرة ويتم تنشيط الصورة النمطية تلقائيًا بحضور أحد أعضاء المجموعة النمطية. ومع ذلك ، فإن الأشخاص الذين ترفض معتقداتهم الشخصية التعصب والتمييزعلى أى أساس قد يسعون إلى تثبيط وعى تأثير الصورة النمطية فى أفكارهم وسلوكهم. على الرغم من أنه لا يمكن منع تأثير الصورة النمطية المنشَّطة تلقائيًا إلا إذا كان الشخص على علم بتحيزه المحتمل وكان لديه دافع وبذل جهد كبير لقمعها واستبدالها بحكم غير نمطى متعمد. يؤكد خبير التنوع هوارد روس فى كتابه « التحيز اليومي: تحديد الأحكام غير الواعية فى حياتنا اليومية » أننا جميعا منحازون بشكل أساسى بطرق غير واضحة بالنسبة لنا، بالرغم من قناعة معظمنا بغير ذلك. لسوء الحظ ، فإن العديد من هذه التحيزات تعسفية والعديد منها قد يدفعنا إلى التفكير والتصرف بطريقة تتعارض مع معتقداتنا ونوايانا الفعلية. يتتبع روس العديد من الطرق المختلفة التى نعمى بها تحيزاتنا وتلك التى نخضع بها للتحيزات. يوضح أيضًا طرق التغلب على بعض تحيزاتنا بعض الوقت ، لكنه يوضح أنه من المستحيل التغلب على جميع تحيزاتنا طوال الوقت، مضيفا أن كل ما يمكننا فعله للتغلب على ذلك هو الاعتراف أولا بتحيزنا ثم التدريب على أساليب مقاطعة أنماط التفكير والسلوك المنحازة التى اعتدنا عليها. يقول روس إن التحيز ليس سيئًا أو جيدًا بشكل أساسى ، إنه ببساطة وظيفة العقل. التحدى هو أنه يمكن أن يظهر بطرق يمكن أن تكون ضارة، حيث يؤثر على عملية صنع القرار. كما يؤثر أيضًا على كيفية وصول الأشخاص إلى خدماتهم ومنتجاتهم ، لذا نحتاج إلى النظر فى كيفية تخفيف التحيز، مشيرا إلى أن القوالب النمطية لها تأثير مدمر على تشكيل تحيزاتنا خاصة عندما تكون سلبية عن مجموعة اجتماعية ننتمى إليها. فالمعتقدات اللاواعية أو الخفية والمواقف والتحيزات التى تتجاوز تصوراتنا العادية عن أنفسنا والآخرين تكمن وراء الكثير من أنماط سلوكنا حول التنوع على المستوى الواعى ، نحن عمومًا مقتنعون بأن قراراتنا «عقلانية» ، ولكن فى الواقع غالبا ما يتم اتخاذ القرارات الإنسانية عاطفيا وفقا لتحيزاتنا، ثم نقوم بعدها بجمع أو توليد الحقائق لتبريرها. فقد بدأنا بالفعل فى العمل دون وعى قبل أن نبدأ التفكير ومحاولات التكفير عن أخطائنا. ويأتى كتاب «المخ الخفي» لمؤلفه شانكار فيدانتام ليوضح الآلية التى تسمح لهذه التحيزات بالتحكم فى صنع القرار لدينا، حيث عقلنا الخفى يتضمن مجموعة من التأثيرات التى تتلاعب بنا دون إدراكنا. ترتبط بعضها بالاختصارات العقلية أو الاستدلال ، بينما ترتبط جوانب أخرى بالأخطاء فى طريقة عمل الذاكرة والانتباه. وتعامل البعض مع الديناميات والعلاقات الاجتماعية. ما هو شائع بالنسبة للجميع هو أننا لسنا على علم بها. هناك أبعاد للعقل الخفى حيث يمكننا، بجهد ، أن ندرك تحيزاتنا ، ولكن هناك العديد من الجوانب تم إغلاقها بشكل دائم ، ويمكن الاستعانة بما يعرضه الكتاب لتفسير الإجابات العفوية للأطفال فى الفيلم التسجيلى الذى سبقت الإشارة إليه، فهم فى بعض الأحيان لا يفهمون السؤال كما يفعل الكبارعلى الرغم أنهم أجابوا إجابات صادقة قد لا يقدمها الكبار. يسترشد الأطفال والبالغون ب «العقل الخفي» ولكل منهم نفس التحيزات الفارق هو أن الأطفال سيقولون ما الذى يفكر به عقلهم الخفى, بينما تعلم الكبار كبح جماح ردودهم. فالردود التى قد تبدو «لطيفة» لكونها صادرة من طفل ستبدو «مروعة» إذا صدرت من شخص بالغ. حيث غالبا ما تكون الإجابات صحيحة ولكنها ليست مريحة أو صادقة. يكشف أنه يمكن للناس أن يفترضوا خطأً أن مصطلح التحيز اللاشعورى يعنى التحيز.ولكنه فى الواقع يعنى الفرق بين نوايا الفرد وأفعاله وكيف توجد عوامل أخرى لم تكن ضمن سيطرة الشخص الواعى قد تؤثر على القرارات والإجراءات بطرق لا يتوقعها . فانحرافات اللاوعى دائما تطاردنا ، ولكن عوامل متعددة جعلتها خطيرة بشكل خاص اليوم. لقد أدت العولمة والتكنولوجيا ، وخطوط التقاطع المتداخلة للتطرف الدينى ، والاضطرابات الاقتصادية ، والتغيير الديموغرافى إلى تضخيم آثار التحيزات الخفية. خاصة الطريقة التقليدية التى نفكر بها فى التحيز وهى ربطها تلقائيًا بالكراهية والعداء للآخر. يحمل كتاب « العقل الخفى» نظزية مثيرة لتفسير سلوكيات المتطرفين والمفجرين الانتحاريين حيث يدحض فرضية أن أى شخص يرغب فى تفجير نفسه يجب أن يكون غير مستقرنفسيا وعقليا. فهؤلاء يعيشون فى عالم بديل من صنعهم. إنهم يتفاعلون مع الأشخاص الذين يركزون عليهم فى اتجاه ويتم نقلهم عبر مسار حتى تبدو معتقداتهم وسلوكياتهم غير واردة لعامة الناس.ولا يتطلب الأمرالاعتماد على استغلال الدين للقيام بهذا كما يعتقد الكثير منا. كل ما يتطلبه الأمر هو فصلهم عن بقية الواقع ونقلهم ببطء إلى واقع جديد.فعندما تجمع مجموعات من الناس وتعزل نفسها عن العالم الخارجى مع إنشاء شبكة ضيقة من واقعها الخاص. يتم تشكيل رابط الإخوة من خلال الخبرات المشتركة المكررة حتى تتفاعل شبكة الأشخاص فى الغالب مع نفسها وليس مع العالم الخارجى «الحقيقي». وتدريجيا ، تتكيف مواقفهم بطرق لا معنى لها لمعظمنا. داخل أى مجتمع، هناك شبكات اجتماعية مختلفة تنقل قيما اجتماعية مختلفة عن الفئات الاجتماعية. وتحدد هذه التصورات المشتركة الثقافة أو مجموعة الثقافات الفرعية. تتنوع المجموعات الثقافية المختلفة أيديولوجيًا من خلال موقعها فى المجتمع والتمثيلات المنتشرة فى التواصل داخل شبكتها الاجتماعية. وبالتأكيد عندما تتغير الثقافة ، ستتغير التحيزات والصور النمطية الضمنية لأعضائها (وإن كان ذلك يحدث ببطء). لذلك يجب أن تكون هناك إرادة قوية لدى المجتمع لكسر تلك الصور النمطية والتحيزات لتغيير الوعى ، وبالتأكيد لفهم طبيعة الصور النمطية الضمنية بشكل صحيح ، يجب الجمع بين البحث المعرفى ودراسة ديناميات الثقافة ، لفهم الارتباطات المحددة السائدة فى التواصل داخل الثقافة وتأثيرها الضمنى على أعضاء تلك الثقافة. The Hidden Brain: How Our Unconscious Minds Elect Presidents, Control Markets, Wage Wars, and Save Our Lives. Shankar Vedantam. Spiegel & Grau. 2011 Everyday Bias: Identifying and Navigating Unconscious Judgments in Our Daily Lives. Howard J. Ross. Rowman & Littlefield Publishers. 2014