الإنسان فى القرآن هو المخلوق المسئول، وهذه الصفة هى صفوة الصفات التى ذكرها القرآن عنه، لأنه أهل للتكليف بما خُلق عليه، وما مُنح إيّاه وأنعم النعم التى أنعم بها عليه، هى نعمة العقل. فالإنسان يعلو على نفسه بعقله، وعقله هو الضابط لرشده، وإليه اتجه خطاب القرآن بكل وظيفة من وظائفه، العقل الوازع، والعقل المدرك ، والعقل المفكر أو الحكيم، والعقل الراشد أو الرشيد. والعقل رأس المال الحقيقى للآدمى، ادخاره واعتماده الرئيسى عليه واحتفاله الدائم به، أنعم النعم التى مَنَّ الله تعالى عليه بها، وهى منّةٌ دائمة إلى أن يفارقه الإنسان أو يفارق الحياة الدنيا. ادخار العقل يختلف بداهة عن ادخار المال. يكمن الفارق فى أن غريزة جمع المال وادخاره مصدرها الاشتهاء الذى يثبته التكرار ويكرس هواه فى النفس بتحقيق المراد أو قرب تحقيقه، فيما يبدو أن أصل شهواتنا بعامة، وخاصة شهوة اقتناء المال والإكثار منه، مرجعها إلى الهوى فى المكاسب وانتظار الأمل فى حدوثها. بيد أن ادخار العقل شىء آخر. ادخاره زاد هائل لا ينفد، وهو زاد من يريد الرشد لا المال. إذ المال محض تراكم مادى ولون كاسح من ألوان الهوى والأنانية. شهوة المال هى شهوة استحواذ على الأشياء ثابتة أو منقولة أو نقدية. وسط كل هذه الاحتمالات والرغاب ، يظل العقل مرشدًا متى أراد الإنسان استعماله بيقين وعزم وإرادة ماضية لا تختل. على أن أفكار الآدمى لا يصاحبها قط تحول الفكرة حالاً وتوًّا وحتمًا إلى فعل، فالأفكار ليست آليات ولا قرارات، ولا هى تجارب مورست وتمت وتحققت، وليست قوة من قوى الكون، وإنما هى رؤية تمهّد, إن مهّدت, لذلك كله. تحرك الآدمى ليس تحرك فكرة، فمعظم حركات الآدمى وسكناته بسائط تلقائية تحكمها مقادير وآليات داخلية لا ندريها. إذ عقل الآدمى مرشد فقط لمن يرشد، وخادم محكوم بالعواطف والأهواء، وبالكبرياء والأحقاد. هذه هى حال أغلبية الناس فى كل زمان ومكان. إلاَّ أن من يهتم منهم باستخدام عقله، وتنميته باستمرار، تراه يعطيه حقه من الاحترام والتقدير، ويدخره ويزيده ويرشد به نفسه، ويفيض برشده على من يلجأ إليه طالبًا الرشد أو الفهم والهداية. من هنا كان ادخار العقل زادًا هائلاً لا ينفد. أما المال فتجده فى شتى بقاع الأرض عرضةً بكل أشكاله للأخذ والعطاء، ومحلاًّ للخيانة والأمانة، والكذب والصدق. يسود ذلك لدى عامة البشر الذين غلا أكثرهم فى الاندفاع نحو المال والتطلع للفوز به والإكثار منه، والانكفاء عليه!. والآدميون منذ الماضى البعيد، وإلى اليوم، تغلب عليهم السطحية والمجازفة والنصيب.. ويتعرضون بكثرة زادت فى زماننا لمكابدة المكر والكذب والقوة والاستبداد. لذلك باء كثير من أعمالهم وفوراتهم وثوراتهم بالفشل والإخفاق والخسران. ذلك أن ما اعتاد الكثيرون تسميته بالمعرفة ليس إلاَّ معرفة قاصرة، غامضة مبهمة، قليلة النفع. فالآدمى إلى اليوم لا يتحكم فى السيطرة التامة الشاملة على ذاته وسلوكه وهواه ومخاوفه، إذ دور العقل ثانوى فى العادة لدى أغلب الخلق.. لا يزيد كثيرًا عن الاستسلام لبنية الآدمى التى لا يقودها بل ولا يعرفها حقيقة، ولا يحيط إحاطة تامة شافية بتردداتها بين الموافقة والارتياح، وبين الرفض أو العجز والتمرد والسخط. أقصى ما يمكن للآدمى ان يتمناه بما معنا الآن من العلوم والمعارف والأخلاقيات, هو اكتشاف قوانين وعلاقات وإدراك حقائق فى اتساق مع ما هو أفضل منها. بيد أن العقل هو الذى يتنبه إلى ذلك، لأن العقول ليست سببًا، وإنما هى رشد وانتظار للمقادير. إذ الإرادة البشرية ليست سببًا قط لإيجاد الأسس والنتائج، وإنما التيقظ إليها وحسن الحظ فى الوقوف عليها فى تحرك القوى الطبيعية لمصادقة الموهوبين من البشر . والآدمى كما يكون مليئًا بالقدرة، يكون أيضًا مليئًا بالعجز.. هو فى زمنه عرضة دائمًا لهذا وذاك، لا يستقر قط على حال.. يتأرجح تارة بين انطلاق وعلو الأمل، وتارة أخرى إلى بؤس وحيرة والتباس!. فطبيعة البشر لا تعرف الكمال، وحاجاتهم تتحول دائمًا إلى رغبات، والسماح والعفو لديهم والنسيان أقرب من الفهم الصحيح الذى لا يبالى معظم الناس بقيمته. لم تتمكن أغلبيتهم الغالبة جدًّا حتى الآن من الانتقال من الفهم السطحى الناقص، إلى الفهم المتكامل الصحيح.. وذلك لانغماسها الشديد فى العواطف والأهواء . هذا الانغماس الذى لا يسمح ولا يعطى فرصة حقيقية للهدوء والاعتدال والرزانة واحترام العقل والفطنة! جملة القول إن العقل أداة التعقل والتفكير والفهم والإدراك والرشد. بدونه تهيم النفس والجوارح والغرائز بلا مرشد ولا رابط ولا دليل. التنويه بهذا العقل، وفريضة التفكير به، مَعْلَمٌ رئيسى من معالم الإسلام ، ترددت أصداؤه فى القرآن الكريم ، فذكر بكل خاصة من خصائصه ، ووظيفة من وظائفه، وتكررت فيه الإشارة المؤكدة إلى ذلك باللفظ والدلالة، وفى كل معرض للأمر والنهى، حاثةً الإنسان على تحكيم عقله واتباع رشده، ولائمةً له على إهماله أو تعطيله أو قبول الحجر عليه. وليس صدفة ما اختتمت به الكثير من آيات القرآن الحكيم ، من قوارع تنبه إلى العقل بكل وظيفة من وظائفه.. التفكير، والفهم، والتذكر والإدراك، والرشد.. من نحو: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون، أَفَلاَ تَعْقِلُون، وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ، أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ، لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ، »أَفَلاَ تُبْصِرُونَ، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . سبحانه خَلَقَ الإنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ. بهذا العقل كانت فريضة التفكير فى الإسلام، فى مقابل الجمود والعنت والضلال .. وليس حسب العقل بهذه الصفات أن يكون مقابلاً للجنون الذى يسقط التكليف، وإنما هو الذى يدلى بالتفكير بمرتبةٍ أعلى من مجرد دفع المؤاخذة أو دفع الملامة. هو مناط الحكمة، وكانت هذه هى غاية الأنبياء والرسل الذين طلبوا للبشرية الرشد والهداية. لمزيد من مقالات رجائى عطية