وقفت المظاهرتان وجها لوجه، عدة مئات من أنصار تومى روبنسون زعيم اليمين القومى المتطرف فى بريطانيا، أمام عدة مئات من المتظاهرين ضد الفاشية. وعلى غرار الأسابيع الماضية، تفاقمت المواجهة مما استدعى تدخل الشرطة واعتقال شخصين. هناك الكثير من الكراهية الواضحة بين المعسكرين. الشرطة تقف بينهما كحاجز لمنع أى احتكاكات إضافية، لكن حتى بدون أن تقف الشرطة بينهما، سيمكنك بسهولة التفريق بين المظاهرتين. فأنصار اليمين المتطرف والقوميين البيض لديهم قاموس من الإيماءات والإشارات والرموز والشعارات واللافتات لا يمكن للعين أن تخطئه. كما أنهم يستخدمون الملبس والإكسسورات كطريقة سريعة ليتعرف عليهم من يشاركونهم أيديولوجيتهم. لكن يظل الوشم المرسوم بكثافة، خاصة فوق السواعد والرقبة، هو أحد أبرز طرق فرزهم. والوشم هنا هدفه ليس تجميليا كما يفعل البعض، بل إرسال رسالة حول الانتماء الأيديولوجى «القبيلة السياسية» التى ينتمى إليها أنصار اليمين القومى الشعبوى فى أوروبا بتنويعاته العديدة. شرطة مانشستر لمكافحة الإرهاب، المدينة التى تعانى أكثر من غيرها من المواجهات مع أنصار اليمين القومى المتطرف، أصدرت كتيبا احتوى الرموز والإشارات والإيماءات التى يستخدمها أنصار اليمين المتطرف والقوميين البيض للتصدى لهم عندما يتظاهرون، خاصة فى شمال إنجلترا حيث لهم قاعدة دعم شعبية أكثر من الجنوب. ويهدف الكتيب الحافل بالصور الإرشادية لمساعدة قوات الشرطة فى التعرف عليهم والتصدى لمن يقوم منهم بأعمال عنف أو تخريب أو ترهيب للآخرين. ومع ذلك، فالمهمة تظل صعبة على قوات الشرطة مهما تكن مدربة. فالرموز لا تحمل بالضرورة معنى واحدا، والأمر يعتمد على السياق الثقافى. فمثلا الصليب المعقوف الذى هو مرادف للحزب النازى الألمانى فى الغرب اليوم، كان ومازال يستخدم فى الثقافات القديمة، لا سيما داخل الثقافة الهندية الهندوسية والبوذية، كرمز للألوهية والروحانية فى الأديان الهندية، ومانشستر مدينة متنوعة عرقيا ودينيا وبها الكثير من الهندوس والبوذيين. نصيحة شرطة مانشستر بالتالى كانت «أخذ الصورة الكلية» وليس فقط رمزا واحدا، أو وشما له معان ثقافية عديدة. رقم 18 إحدى إشارات الانتماء إلى النازيين الجدد لا شك فى أن أوروبا تتلفت قلقا وتوجسا يمينا ويسارا، فانتخابات البرلمان الأوروبى التى تعلن نتيجتها خلال أيام، تشير إلى أن أحزاب اليمين القومى المتطرف فى طريقها لتعزيز عدد مقاعدها فى البرلمان الأوروبى، واستطلاعات الرأى تشير إلى أن هذه الأحزاب يمكن أن تنال نحو ثلث مقاعد البرلمان الذى يسن قوانين الاتحاد الأوروبى ويحدد وجهته فى عدد كبير من القضايا، بدءا من الهجرة والسياسات المالية، حتى الأمن وحقوق الإنسان. قاموس الإيماءات وخلال تلفت القارة الأوروبية بقلق خوفا مما سيأتى، تجد قوات الشرطة من بريطانيا إلى المجر، ومن المانيا إلى إستونيا نفسها مضطرة لمراقبة الإشارات والإيماءات المرتبطة باليمين القومى الأوروبى على مواقع التواصل الاجتماعى على الإنترنت وخلال المظاهرات. ومن بين تلك الإشارات والرموز ما هو معروف مثل الصليب المعقوف، وشبكة العنكبوت، والجمجمة، والنسر النازى، لكن هناك أيضا إشارات وإيماءات غير معروفة على نطاق واسع ولا يدرك مغزاها الأيديولوجى غير عناصر تلك الجماعات، ومن بينها رقم (18)، وإشارة (OK)، و«الخمس نقاط». فرقم (18)، الذى يكون عادة على شكل وشم أو مطبوعا فوق ملابس مؤيدى التيارات القومية المتطرفة، هو اختصار لأول حرفين من اسم أدولف هتلر. فالحرف الأول من الأبجدية الإنجليزية هو (A) والحرف الثامن هو (H). وبالتالى 1 زائد 8 يساوى (AH)، أى اختصار أدولف هتلر. وهذا هو الوشم المفضل للنازيين الجدد. أيضا هناك وشم الخمس نقاط، وهو عادة يرسم على السطح الخارجى لليد بين الإبهام والسبابة. للوشم معان مختلفة فى ثقافات مختلفة، فهو قد يفهم كرمز للخصوبة، ورمز للاعتراف بين قبائل الغجر الأوروبية، ورمز الوحدة والعزلة حيث النقاط الأربع هى حوائط سجن وأنت وحدك فى الداخل، ولهذا يعد الوشم المفضل لرجال العصابات حول العالم ومرتادى السجون، لكنه أيضا يعنى فى ثقافة جماعات اليمين القومى النقاء العرقى. أيضا هناك علامة (100%) التى تستخدم كوشم أو تطبع فوق الملابس للتعبير عن تفوق الجنس الأبيض. هناك كذلك رقم (23) الذى يعادل حرف (W) فى الأبجدية الإنجليزية، وهو اختصار لكلمة أبيض وبدوره إشارة إلى تفوق العرق الأبيض، وكثيرا ما يستخدم حليقو الرءوس هذا الرقم كرمز سرى خلال التخاطب بينهم. وأيضا رقم (5) ويشير الرقم لعبارة من خمس كلمات منتشرة وسط أنصار تفوق الجنس الأبيض وهى ليس لدى ما أقوله لكم، وهى العبارة التى يقولها أنصار تلك التيارات للشرطة عندما يتم اعتقالهم. ومن بين الإشارات أيضا التى دخلت قاموس أنصار اليمين القومى المتطرف فى أوروبا، الإشارة باليد أن كل شىء على ما يرام أو (OK). فزعيمة اليمين القومى المتطرف فى فرنسا، مارين لوبان الفرنسية، ضبطت وهى ترفع يدها بتلك الإشارة خلال زيارتها للحزب اليمينى المتطرف فى إستونيا «ايكرى»، الذى دخل للتو فى الحكومة. وفى صورة لها مع زعيم تنظيم الشباب فى الحزب، روبن كاليب رفعت يدها بإشارة (OK). ومع أن لوبان قالت إنها لم تقصد أى معنى معين، إلا أن هناك مشكلة فى هذا التفسير، فالإيماءة أو الرمز مستخدمة على نطاق واسع من قِبل القوميين البيض فى أوروبا خلال السنوات الأخيرة. ومع أن مارين لوبان دافعت عن نفسها، مؤكدة: «لم أسمع أبدا بالمعنى الثانى لهذه اللفتة التافهة». (أى كونه رمزا لأنصار اليمين المتطرف والقوميين البيض فى أوروبا). لكن دفاعها وقع على آذان صماء. فهى من أبرز وجوه اليمين القومى الأوروبى، فكيف تجهل، وهى التى تجوب أوروبا وتلتقى مع قادة اليمين الأوروبى شرقا وغربا، وجود هذه الإيماءة ودلالتها السياسية التى تنتشر أيضا وسط أنصار اليمين القومى الأمريكى والأسترالى. فمرتكب جريمة المسجدين فى نيوزيلندا مثلا، لوح بالإيماءة بيده عندما مثل أمام المحكمة لسماع التهم الموجهة ضده. ومنذ ذلك الحين، تكرر استخدامها مرارا من قبل أنصار القوميين الأوروبيين على الإنترنت. مزحة تحولت لكابوس وعلى عكس الكثير من إيماءات ورسومات تيارات اليمين المتطرف والقوميين البيض التى لها تاريخ يعود للثلاثينيات من القرن الماضى، فإن علامة (OK) بدأت كمزحة على الإنترنت 2017 على موقع «4 شان» العنصرى على الشبكة العنكوبتية الذى يرتاده أنصار اليمين القومى المتطرف بتنويعاته والعنصريين الجدد. وكان الهدف أخذ إيماءة بريئة ومستخدمة على نطاق واسع للسخرية من وسائل الإعلام الكبرى حول العالم، وإقناعها أن العلامة أو الإيماءة أصبح لها معنى مختلف عن المعنى الشائع لها وباتت تعبيرا عن القومية البيضاء وجزءا من «قاموس سرى» من الإشارات والإيماءات. لكن النكتة تحولت لحقيقة وباتت الإيماءة إشارة إلى سمو الجنس الأبيض، حتى إن كثيرين يعتقدون اليوم أن علامة OK تغير معناها عمليا، وبات البعض يتجنب استخدامها. وبحسب «رابطة مكافحة التشهير الأمريكية» «فإنه بحلول عام 2019، يبدو أن بعض أنصار تفوق الجنس الأبيض، قد تخلوا عن الهدف الساخر من الإيماءة... واستخدموا الرمز كتعبير صادق عن تفوق الجنس الأبيض» وبسبب هذا باتت مواقع التواصل الاجتماعى على الإنترنت تراقب تلك الإيماءة ومستخدميها والسياق الذى تستخدم فيه فى إطار حربها على التطرف القومى اليمينى الأوروبى. لكن رابطة مكافحة التشهير الأمريكية تلاحظ أن الغالبية الساحقة على الإنترنت تستخدم الإيماءة فى إطار معناها التقليدى البرىء. السياق إذن، هو المفتاح. وهذا سبب الهجوم الذى تعرضت له مارين لوبان. فأبرز وجهين فى حزب «ايكرى» القومى اليمينى فى إستونيا وهما مارت هيلمى ومارتى هيلمى (أب وابنه) قاما بعمل تلك الإشارة فى أثناء أداء اليمين الدستورية لدى دخولهم الحكومة الائتلافية على خلفية برنامج متطرف حذرا فيه من أن المهاجرين والأجانب يحلون محل السكان البيض الأصليين فى إستونيا، معربين عن الأمل فى أن تعود «أستونيا» بلدا أبيض. تترقب أوروبا إذن نتائج انتخاباتها والخوف كل الخوف أن تتمكن أحزاب اليمين القومى المتطرف من تحقيق مكاسب كبرى تمكنها من أن تكون كتلة صعبة داخل البرلمان الأوروبى، لأنها فى هذه الحالة قد تأخذ المشروع الأوروبى من أرضية الانفتاح والتسامح لأرضية الانغلاق والعنصرية. فالعداء للمهاجرين هو القضية الأولى التى توحد اليمين القومى المتطرف فى أوروبا. وفى نظر هذه التيارات الهجرة الواسعة منذ 2015 هى «حرب إبادة عرقية» على هوية أوروبا البيضاء. وكل جريمة يقوم بها مهاجر هنا أو هناك، لا يتم التعامل معها بوصفها جريمة فردية مستهجنة، بل بوصفها جزءا من مؤامرة لتغيير التركيبة العرقية والدينية والثقافية لأوروبا. ولا عجب أن يقوم حزب «البديل من أجل ألمانيا» القومى المتطرف برفع صور الضحايا الألمان الذين قتلوا فى جرائم جنائية على يد مهاجرين أو لاجئين فى مسيراته الاحتجاجية. وما يقلق أوروبا أكثر من غيره هو التحالفات التى تتم بين أحزاب اليمين المتطرف والقوميين البيض والنازيين الجدد. ففى ألمانيا مثلا تحالف البديل من أجل ألمانيا مع «حزب بجيدا» المتطرف، مع «جماعات الرءوس الحليقة» و«النازيين الجدد» وفى بريطانيا تحالف حزب استقلال المملكة المتحدة أو (يوكيب) مع تومى روبنسون الزعيم السابق ل «الرابطة الوطنية» وكثير من هذه التحالفات تمت بعد دعوة ستيف بانون المستشار السياسى السابق للرئيس الأمريكى دونالد ترامب لتأسيس «شبكة من الأحزاب اليمينية» عابرة للدولة القومية فى أوروبا. لا جديد فى القول إن الأجواء فى أوروبا قاتمة إلى حد كبير، لكنها قد تتزايد قتامة بحسب نتائج انتخابات البرلمان الأوروبى، فأى انتصار كبير لتلك الأحزاب سيصيب أوروبا وقادتها بحالة من الدوار.