ثمة لفظان قد يقال عنهما إنهما مترادفان ولكنهما ليسا كذلك وهما: الخلاف والانشقاق. فإذا قيل إنهما مترادفان فسبب ذلك مردود إلى أن اللفظ المشترك بينهما هو المختلف. أما إذا لم يكونا كذلك فسبب ذلك مردود إلى أن الانشقاق يعنى الخلاف مع العداوة. ومع العداوة يتحول الرأى المخالف إلى تيار يكون من شأنه إحداث انشقاق فى تيار آخر سابق عليه. وإليك مثال بما حدث لابن رشد فى نهاية القرن الثانى عشر. فقد كان ثمة خلاف بينه وبين الغزالى من حيث إن ابن رشد كان يحرض على إعمال العقل فى النص الديني، أما الغزالى فكان يحرض على عدم إعمال العقل فى ذلك النص. وكانت النتيجة أن تحول رأى الغزالى إلى تيار مختلف، وأُقصى بعدها ابن رشد من العالم الاسلامى ومن ثم عجز عن إحداث انشقاق فى ذلك العالم. والسؤال اذن: ماذا كان ينقص ابن رشد لكى يتحول خلافه مع الغزالى إلى إحداث انشقاق؟ لقد اكتفى بالدعوة إلى أن يكون من حق الانسان الخروج على الإجماع، إلا أنه كان من اللازم عليه القول بأن يكون من حق هذا الانسان تحريض الآخرين بحيث يكون فى إمكانه خلق تيار مخالف ومعادٍ، ويكون من شأنه إحداث الانشقاق المطلوب. وإليك مثال آخر بما حدث فى هذا القرن فقد كانت الأصولية الاسلامية على وعى بضرورة تدمير الحضارة الغربية بادعاء أنها حضارة كافرة، ومن ثم قررت إحداث انشقاق فى هذه الحضارة. وكانت هذه الحضارة فى حينها تضم المعسكرين الشيوعى والرأسمالى فتحالفت مع المعسكر الرأسمالى لإحداث الانشقاق المطلوب، وكان هذا المطلوب تدمير المعسكر الشيوعي، وقد تم فى عام 1991. وفى عام 1992 أصدر المؤرخ الأمريكى فرنسيس فوكوياما كتابه المعنون: نهاية التاريخ والانسان الأخير. إلا أن فوكوياما لم يكن يقصد بالتاريخ أنه جملة أحداث أياَ كانت خطورتها، بل كان يقصد بالتاريخ أنه مسار واحد متسق ومتطور وتدخل فيه خبرات جميع الشعوب فى جميع الأزمنة، ومن ثم يقال إن المسار تطور من البدائية إلى الحداثة أو من الارستقراطية الإقطاعية إلى الديمقراطية الليبرالية. إلا أنه كان واهماً فيما ارتأي، إذ سرعان ما جاءت أحداث 11/9 التى نفذها نفر من الأصوليين الإسلاميين. والمغزى هنا أن ثمة بديلاً منافساً ومناقضاً لذلك التطور وهو الأصوليات الدينية وليس فقط الأصولية الاسلامية. وفى هذا السياق يمكن القول إننى كنت على وعى بذلك البديل إلى الحد الذى أعلنت فيه أن عام 1979 هو عام الأصوليات الدينية بل هو عام القرن العشرين. وفى عام 1986 اشتركت فى تنظيم مؤتمر فلسفى دولى بسانت لويس بأمريكا كان مخصصاً للمساهمة فى إنقاذ البشرية من حرب نووية بين الكتلتين الشيوعية والرأسمالية. وفى ذلك المؤتمر قلت إن الأصولية الاسلامية لها غاية محددة وهى إقامة الخلافة الإسلامية على كوكب الأرض. ومن أجل تحقيقها قررت القضاء على المعسكر الشيوعى أولاً بالاتفاق مع المعسكر الرأسمالى وبعد ذلك تنفرد بالقضاء على المعسكر الرأسمالي. ومع ذلك قيل - رداً على رأيي- إن هذا القضاء لن يكون ممكناً بسبب تحكم التيار العقلانى فى مسار الحضارة الإنسانية. إلا أن ما حدث فى 11/ 9 دلَ على أن النخبة الفلسفية قد أصيبت بما يسميه فيلسوف التنوير الأوروبى كانط السُبات الدوجماطيقي. وشرح هذا المصطلح هو على النحو الآتي: لفظ دوجماطيقى ينتسب إلى لفظ دوجما وهو لفظ يونانى معناه اعتقاد محصن ضد الحجج العقلية والتجارب الانسانية. وأنا بدورى أقول إنه المالك للحقيقة المطلقة، ومن ثم يكون هو الرافض أيّ حقيقة مطلقة أخرى بل ويعاديها. وتحت الدوجماطيقية ثمة ايديولوجيات متعددة مثل الفاشية والشيوعية والنازية، ومن ثم فلا يصح أن يقال عن هذه الايديولوجيات إنها أصوليات لأن الأصوليات مثل الايديولوجيات كلها تقع تحت الدوجماطيقية، أى أنها فروع منها. وبناء عليه يمتنع الخلط بين الأصوليات والايديولوجيات، لأن من شأن هذا الخلط أن يفضى إلى تناول الأصوليات فى سياق العوامل الاقتصادية والثقافية والسياسية، ومن ثم يُخرج النص الدينى من المجال الدينى ويدخله فى مجال آخر هو المجال التاريخى الذى ينص على تاريخية ذلك النص. وإذا كان ذلك كذلك فإن ذلك لا يستقيم مع الدافع الدينى الذى يستولى على عقل الأصولى فيتوهم أنه حاصل على الأمن والأمان فى هذه الدنيا لأنه فى حماية الميليشيات الارهابية الأصولية. وبناء عليه فإن التخلص من الأصولية يستلزم الاكتفاء بتحليل النص الدينى على غرار ما قام به ابن رشد من التمييز بين المعنى الظاهر والمعنى الباطن، وهو تمييز يستلزم إعمال العقل من أجل الكشف عن المعنى الباطن وهو ما يطلق عليه لفظ تأويل والذى يلزم منه الخروج على الإجماع ومنع تكفير مَنْ يمارس هذا الخروج. وإذا تعددت التأويلات وهى بالفعل متعددة فالخلاف وارد بالضرورة إلى حد إحداث الانشقاق الذى يمنع الجمود ويدفع إلى التطور الذى يزيل الدوجماطيقية، ومن ثم تتحرر الحضارة الانسانية من الأصوليات الدينية والايديولوجيات المدمرة، وتنخرط فى توليد الإبداع الذى تتميز به الحضارة، إذ هى منذ نشأتها والإبداع يلازمها بفعل عقل مبدع. لمزيد من مقالات د. مراد وهبة