قيل عن العصور الوسطى إنها عصور خاصة بالعالم المسيحى دون العالم الإسلامي، وهذه الخصوصية كامنة فى أن ثمة سلطة دينية متحكمة فى عقول البشر إلى حد الوصاية، إذ ليس من حق هذه العقول أن تفكر على نحو ما تريد إنما عليها أن تفكر على النحو الذى تفكر به السلطة الدينية، فى حين أن العالم الإسلامى يخلو من تحكم السلطة الدينية، وبالتالى فإنه يخلو من ظاهرة العصور الوسطى. وقيل أيضا إن العصور الوسطى بدأت مع فلسفة القديس أغسطين فى القرن الرابع الميلادى وعلى الأخص فى كتابه المعنون «مدينة الله». والمقصود بمدينة الله المدينة السماوية ونقيضتها المدينة الأرضية وبين المدينتين حرب هائلة تجاهد الأولى فى سبيل العدالة وتعمل الأخرى على نصرة الظلم. وعلى الانسان أن يختار بمحض ارادته الحياة فى إحدى المدينتين. فإذا اختار المدينة السماوية فعليه أن يُخضع العقل للإيمان. والايمان من اختصاص السلطة الدينية بمعنى أن المؤمن ملتزم بالخضوع لها، بل إن الدولة ذاتها ملتزمة بذلك. ومن هنا تكون الدولة دينية، وتكون السلطة لآباء الكنيسة مستندة إلى فلسفة تقوم هى بتحديدها. وقد حددتها تارة بفلسفة أفلاطون فى بداية العصور الوسطى ثم حددتها بعد ذلك بفلسفة أرسطو. ولم تخرج أوروبا من العصور الوسطى إلا بتأثير من تيار الرشدية اللاتينية الذى شاع فى القرن الثالث عشر استناداً إلى فلسفة ابن رشد عندما تم ترجمتها إلى اللاتينية والعبرية، وهى فى أساسها تنص على إعمال العقل فى النص الدينى الذى يفضى بدوره إلى اكتشاف المعنى الباطن لذلك النص وتجاوز المعنى الظاهر الذى يقف عند حد الحس. والمفارقة هنا أن ابن رشد مكفر فى العالم الإسلامى من القرن الثانى عشر حتى القرن الحادى والعشرين. وبديله ابن تيمية من القرن الثالث عشر حتى هذا القرن والمعروف عنه أنه يعتبر إعمال العقل فى النص الدينى رجسا من عمل الشيطان، أى بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار. ومن هنا دخل العالم الإسلامى فى العصور الوسطى، ومن ثم لم تعد هذه العصور خاصة بالعالم المسيحى بل خاصة بأى عالَم أيا كان دينه إذا امتنع عن إعمال العقل فى النص الديني. العصور الوسطى اذن فى حالة حركة متنقلة من عالم إلى آخر. إلا أن اللافت للانتباه فى القرن الحادى والعشرين أن ثمة تيارا دينيا مهيمناً على كوكب الأرض اسمه التيار الأصولى وهو تيار يستند إلى إبطال إعمال العقل ويريد من هذا الإبطال أن يشيع بين البشر على تباين عقائدهم حتى يمكن انقاذ الحضارة من السقوط فى «شرور» الثورة العلمية والتكنولوجية. وقد قررت الأصولية الاسلامية أن تكون هى المسئولة عن القضاء على هذه الشرور. وبدأت بالفعل فى تنفيذ ذلك القرار فى 11/9 وذلك بتدمير مركز التجارة العالمى أعلى مراحل الثورة العلمية والتكنولوجية. وبعد ذلك اتخذت الأصولية الاسلامية مراكز لها فى مختلف بلدان كوكب الأرض إلى الحد الذى يمكن أن يقال عنده إنها أصولية كوكبية، وكان تنطيم «القاعدة» فى أفغانستان هو الأساس إذ بدا على هيئة جماعة مدعمة للحركات الجهادية المحلية فى الحد الأدنى، أو معارضة بوضوح لحكومات البلدان الاسلامية فى الحد الأقصى وذلك بالتمويل والأسلحة وتدريب من يريد أن يكون ارهابياً. ثم دخل تنظيم «القاعدة» فى علاقة عضوية مع الجماعات المصرية فى التسعينيات من القرن الماضي. ومع تكثيف الأمن فى البلدان الغربية اتخذ ذلك التنظيم منحنى جديداً فى الهجوم على بلدان غير غربية مثل اندونيسيا وكينيا والمغرب وباكستان وتونس وروسيا. ومع ذلك فإنه يمكن القول بأن الفضل فى تأسيس تنظيم القاعدة مردود إلى الثورة الايرانية فى عام 1979 وإلى العرب الأفغان الذين هزموا الجيش السوفييتى فى عدوانه على دولة اسلامية هى أفغانستان فى نفس عام 1979. وأظن أنه مع ذلك العام 1979 بزغت فكرة الأصولية الاسلامية الكوكبية. والسؤال اذن: كيف؟ فى عام 1983 فاتحنى الفيلسوف الأمريكى جون سومرفيل فى تأسيس جمعية دولية تحت عنوان «الفلاسفة الدوليون لمنع الانتحار النووى البشرى». وهذا المصطلح من وضعه ويعنى قتل بعض البشر لكل البشر أو بالأدق تدمير الحضارة فى نهاية المطاف. وفى 23 أغسطس 1983 عقدنا اجتماعا بمونتريال بكندا لإقرار دستور الجمعية. ومن أهم بنوده تدعيم التعاون الدولى بين فلاسفة كوكب الأرض بغض النظر عن رؤاهم الفلسفية من أجل الاتفاق على خطط عملية لمنع الانتحار النووى البشرى. والعضوية مشروعة ليس فقط للفلاسفة ولكن أيضاً لأولئك الذين يؤيدون إسهام الفلسفة فى إرساء السلام. وفى ذلك الاجتماع تم تعيينى عضواً فى اللجنة الدولية المنظمة لأعمال هذه الجمعية مع كبار فلاسفة أمريكا والاتحاد السوفييتي. وفى عام 1986 انعقد المؤتمر الأول بسانت لويس بأمريكا تحت عنوان «الفلسفة والمشكلة الجديدة الخاصة بالانتحار النووى البشرى». وقد كان المشاركون من فلاسفة المعسكرين الشيوعى والرأسمالي، أى من المنتمين إلى ايديولوجيتين متناقضتين لم يعد صراعهما مقبولاً إزاء الانتحار النووى البشرى المهدد للسلام العالمي. وكان عنوان بحثى «الايديولوجيا والسلام». وكان رأيى فى أثناء مناقشته أن الأصولية الاسلامية تنشد تأسيس الخلافة الاسلامية على كوكب الأرض، إلا أن هذا التأسيس ليس ممكناً إلا بالقضاء على الاتحاد السوفييتى استناداً إلى أمريكا ثم بعد ذلك تنفرد بأمريكا للقضاء عليها. وكان تعقيب المشاركين أن هذا الرأى ينطوى على تشاؤم. ومع ذلك فقد مات الاتحاد السوفييتى فى عام 1991 وبقى الدور على أمريكا، وأظن أنها فى الطريق إلى الموت إذا التزمت فكر الأصولى أوباما، وإذا حدث ذلك فإن الحضارة تدخل فى عصور وسطى كوكبية. لمزيد من مقالات مراد وهبة