أعلنت مجلة «الايكونومست» فى نهاية القرن العشرين أن الدين قد مات. وبعد أقل من عامين جرت أحداث 9/11/2001 فعاد الدين إلى الصدارة وتحدى الحداثة الغربية المنبثقة عن عصر التنوير، وطالب بإجراء حوار جديد حول دوره الذى ينبغى أن يؤديه فى القرن الواحد والعشرين لتغيير المناخ السياسى والثقافى المتأثر بسلطان العقل ثمرة عصر التنوير. دعوة الدين اذن إلى تغيير ذلك المناخ السياسى والثقافى تعنى أننا فى الطريق إلى عاصفة دينية وليس إلى ثورة دينية. مقدمة هذا المقال منقولة من افتتاحية «المجلة الدولية لكلية سانت أنتونى» بجامعة أكسفورد (يناير2008). إلا أن لفظ «عاصفة» المنقولة من افتتاحية المجلة إنما يشير إلى لفظ «الارهاب» الذى يستلهم الدين لتدمير الحضارة الانسانية. وإذا قيل بعد ذلك إننا نحيا فى «قرية كوكبية» فقد دلت الأحداث على ان هذا القول مجرد وَهْم بسبب شيوع الفوضى والصراعات الاقليمية مع اهتزاز الأمن، الأمر الذى يستلزم من النخبة إعادة النظر فى رؤيتها بسبب صعود الدين فى إطار بزوغ العلوم البينية أى العلوم المتداخلة بعد أن كانت متخارجة، وفى إطار قول شاع بين الشيوعيين أن الحداثة من شأنها اضعاف الدين إلى أن يتوارى، وان شيوع ذلك القول كان من شأنه تأسيس رؤية بديلة سمتها دينية وتريد العصف بالدولة العلمانية أيا كانت فى أى مكان.ومع ذلك فثمة سؤال لابد أن يثار: لماذا يدخل العصف أو يالأدق العنف فى تأسيس الرؤية البديلة دينياً؟ المفارقة هنا أننى قد فطنت إلى هذه العلاقة بين الدين والعنف فى ابريل 1981 عندما عقدت مؤتمراً فى ذلك الشهر من ذلك العام، أى قبل أحداث 11/9 بعشرين عاما، وكان عنوان المؤتمر «الشباب والعنف والدين»، وكنت فى حينها مسئولاً عن اقليم الشرق العربى فى اللجنة التنفيذية ل» المجموعة الأوروبية العربية للبحوث الاجتماعية». ومغزى هذا العنوان الذى تناوله بالتفصيل مفكرون من علم الاجتماع أن الدين شأن عام وليس محصوراً فى فقهاء أو لاهوتيين أو دعاة أيا كانت ملتهم الدينية، وأن الشباب من حقهم أن تكون لهم هموم دينية وأن يكون من شأنها أن تدفعهم إلى الالتزام برؤى دينية، وكان فى مقدمة هؤلاء الشباب شباب الاخوان المسلمين الذين ثاروا ضد الشرور الواردة من الحضارة الغربية على حد قول سيد قطب المنظَر لهم فى كتابه المعنون «معالم فى الطريق» الذى ألفه فى أثناء سجنه لمدة اثنى عاما قبل اعدامه فى عشر عام 1966 إثر اتهامه برسم خطة سرية لاغتيال الرئيس جمال عبدالناصر. وفكرته المحورية أن ما يسمى المجتمع الاسلامى القائم ما هو إلا مجتمع منحل مكون من مجموعة من الكفار تحيا فى الجاهلية وليس فى الامكان تحويلها إلى الاسلام الحق إلا بمجتمع الهى يستند إلى القرآن. والذى يرفض هذا التغيير ينبغى محاربته بلا هوادة وسحقه استناداً إلى قوانين الله. وقد كانت هذه الرؤية هى الدافع وراء تدمير مركز التجارة العالمى فى 11/9. ومغزى هذا التدمير وزمنه أن بداية القرن الواحد والعشرين كامنة فى مسار القرن العشرين بقيادة الأصولية الاسلامية على نحو ما أرى، ومن ثم تكون افتتاحية مجلة الايكونومست التى تنص على موت الدين هى بلا معنى أو بالأدق هى رؤية غير علمية وخالية من أى بصيرة. وإعادة الرؤية فى مسار القرن العشرين لازمة من لزوم ما حدث مع بداية القرن الواحد والعشرين. وإذا قيل بعد ذلك إن كل شىء قد تغير بعد أحداث 11/9 فهذا قول يشى بغيبوبة دوجماطيقية فى حاجة إلى إفاقة. والسؤال اذن: ما سبب الغيبوبة الدوجماطيقية، أى الغيبوبة التى سببها توهم امتلاك الحقيقة المطلقة؟ سببها غياب العقل الناقد، أى العقل القادر على اجتثاث جذور ذلك الوهم. إلا أن قدرة هذا العقل تكمن فى جرأته. ومن هنا قال الفيلسوف الألمانى العظيم كانط عبارته المأثورة: «كن جريئاً فى إعمال عقلك». ومن شأن هذه الجرأة أن تمنع العقل من السقوط فى غيبوبة الدوجماطيقية. وحيث إن التيار الشائع الآن على مستوى كوكب الأرض هو التيار الأصولى المانع من جرأة العقل وبالتالى الدافع إلى السقوط فى الغيبوبة الدوجماطيقية فالسؤال اذن هو على النحو الآتى: ما السبب فى شيوع التيار الأصولى؟ قيل فى ذلك الشيوع سببان: السبب الأول أن بداية القرن الواحد والعشرين جاءت مصحوبة بشعار «العودة إلى الدين» كرد فعل ضد الحداثة العلمانية. وحيث إن العلمانية نشأت كرد فعل ضد أصولية العصر الأوروبى الوسيط التى تقف عند المعنى الظاهر للنص الدينى، ومن ثم تكفر أى نظرية علمية يشتم منها أنها ضد ذلك المعنى الظاهر. والسبب الثانى أن العودة إلى الدين واكبتها وسائل إعلام كوكبية كانت كفيلة بدفع الأصوليات إلى الصدارة مع الهيمنة. وفى هذا الاطار صدر فى عام 2001 كتاب عنوانه «الدين ووسائل الاعلام» يدلل على هذا الذى أثرته إجابة عن السؤال. وأبرز ما ورد فيه أن الأصولية الاسلامية هى « الآخر» بامتياز فى هذا الزمان، إذ هى نقيض التنوير والحداثة والمجتمع المدنى، ونقيض العقل فى نهاية المطاف. وحيث إنها مسلحة فكانت مهيأة لغزو كوكب الأرض. ويبقى بعد ذلك القول بأن الأصوليات الدينية غير الاسلامية وإن كانت على نقيض الأصولية الاسلامية إلا أنها مساهمة فى توفير مناخ دينى داعم لهذه الأصولية لأنها الأقوى تنظيماً وتسليحاً. وإذا كان الارهاب هو أعلى مراحل الأصولية فإن اضعافه كحد أدنى والقضاء عليه كحد أقصى ليس ممكناً إلا بإشاعة تيار علمانى كوكبى مؤسس على الجرأة فى إعمال العقل ولا بديل. لمزيد من مقالات مراد وهبة