لم تكن ثورة 1919 بالنسبة لشوقى مجرد مظاهرات ضد المحتلين الإنجليز ومصادمات معهم. ولم يكن شعره فيها مجرد تقرير أو تحريض أو خطابة، وإنما كانت هذه الثورة بالنسبة له نهضة كبرى شاملة، وكان شعره فيها رؤية لهذه النهضة واقتناعا بها وتمثلا لها وانخراطا فيها. كانت الثورة بالنسبة له تعبيرا صريحا عن ميلاد الأمة المصرية التى لم تعد رعية لمحتل أجنبى أو لجبار مغامر، كما كان حالها طوال العصور التى سبقت الثورة، وإنما تخلصت من هذا المرض المزمن واستردت وعيها بنفسها واعتزازها بسيادتها وإيمانها بحقها المقدس فى أن تختار طريقها وأن تكون مصدر كل السلطات التى تنظم حياتها. الثورة كانت خروجا من تاريخ طويل مذل وقف أمامه شوقى يقول فى مطولته «كبار الحوادث فى وادى النيل»: ما الذى داخل الليالى منا فى صبانا ولليالى دهاءُ فعلا الدهرُ فوق علياء فرعون وهمت بملكه الأرزاءُ أعلنت أمرها الذئاب وكانوا فى ثياب الرعاة من قبل جاءوا وإذا مصر شاة خير لراعى السوء تؤذى فى نسلها وتساءُ! أقول إن ثورة 1919 كانت تعبيرا عن ميلاد جديد للأمة المصرية تخلصت فيه من هذا المرض المزمن وثارت عليه فلم تعد رعية لحاكم أجنبى أو محلي، والفرق ضخم بين الأمة والرعية. الأمة جماعة وطنية لها أرضها وتاريخها وشخصيتها ودولتها المستقلة. فإذا فقدت الأمة شرطا من هذه الشروط تفككت وانحلت وأصبحت رعية يستبد بها حكامها كما يفعل رعاة الغنم مع قطعانهم. وقد رأينا خالد محمد خالد يثور على الأوضاع التى كانت مفروضة على المصريين فى أربعينيات القرن الماضى وينبه حكامهم بغضب إلى أننا مواطنون لا رعايا، أى أننا جماعة من الأحرار الذين يملكون كل المقومات التى تجعلهم سادة أنفسهم، والفضل لثورة 1919 التى كانت ثورة ثقافية بقدر ما كانت ثورة سياسية استطاعت فيها مصر أن تخرج من عصور الانحطاط وتسترد وعيها بنفسها وتكافح من أجل الاستقلال، وتعرف معنى المواطنة، وتطالب بالدستور، وتميز بين الانتماء الوطنى والانتماء الديني، وترفع الشعار الذى أصبح راية من رايات الثورة وهو «الدين لله، والوطن للجميع». هذا الشعار له فى مصر بالذات معناه وله خطره وخاصة فى الوقت الذى اشتعلت فيه الثورة. لأن المصريين بطبعهم متدينون. وبدلا من أن يكون الدين نقطة ضعف فى نظمهم السياسية وفى وحدتهم الوطنية يستغلها الطغاة فى سيطرتهم على كل شىء بدعوى أنهم حراس العقيدة ارتفع هذا الشعار ليحدد لكل نشاط مكانه. وفى السنوات التى اشتعلت فيها الثورة والتى سبقتها كانت مصر خاضعة فى وقت واحد للأتراك الذين حكمونا باسم الإسلام وللانجليز الذين احتلوا بلادنا بالقوة الغاشمة واستغلوا الدين مع ذلك فسعوا للتفريق بين المسيحيين والمسلمين. وجاءت الثورة لتمنع الخلط وتلم الشمل وتدعم الوحدة الوطنية. فالدين لله، والوطن للجميع. وقد تبنى شوقى هذا الشعار فى شعره فقال: الدين لله. من شاء الإله هدي لكل نفس هوى فى الدين داعيها ما كان مختلف الأديان داعية إلى اختلاف البرايا أو تعاديها الكتب والرسل والأديان قاطبة خزائن الحكمة الكبرى لواعيها فى هذه الأبيات يهتف شوقى مع الثوار فيقول إن الدين لله يعتنقه من يعتنقه بهدى من الله وباقتناع وإيمان صادق من نفسه. وهذا ما قصده بقوله «لكل نفس هوى فى الدين»، أى لكل إنسان فكره وقيمه وهمومه وظروفه التى تقوده وتملى عليه اختياراته واجتهاداته. ولأن الدين اختيار حر فالأديان تختلف وتتعدد، لأن الاختيارات تختلف وتتعدد دون أن يكون اختلافها أو تعددها سببا للعداوة والخصام. بل يجب أن نعتبر الاختلاف رحمة كما كان يقول أجدادنا فى كلمتهم المأثورة. لأن الاختلاف حرية وسعة تضمن للناس أن يختاروا دون أن يخرجوا من دائرة الحكمة الكبرى. لأن كل الطرق تؤدى إلى الله، وخزائن حكمته لا تستنفد. وحين نرفع شعار «الدين لله والوطن للجميع» لا نبتعد عن الدين، ولا ننتقص من حقه، بل نؤدى للوطن حقه. ونحن نعرف أن حب الوطن من الإيمان. وفى هذا يقول شوقى وهو يخاطب شباب الثورة ويحرضهم على مواصلة النضال وهدم القديم والبناء على أسس جديدة، وإلا فالترقيع باسم الإصلاح تزييف قد يخفى العيب الظاهر إلى حين، لكن القديم الذى انقضى عمره يظل قديما عاجزا لا يستطيع أن يعيش حياة العصر أو يلبى مطالبه. فإذا كان الرجعيون قد وقفوا يحرسون الماضى وينكلون بالمجددين كما فعلوا مع على عبد الرازق وطه حسين، فشوقى وقف على العكس فى المعسكر الآخر يرى الثورة دينا والنضال فى سبيل الوطن والدفاع عن الحرية والعقل عبادة: الهدم أجمل من بناية مصلح يبنى على الأسس العتاق جديدا وجه الكنانة ليس يغضب ربكم أن تجعلوه كوجهة معبودا ولوا إليه فى الدروس وجوهكم وإذا فرغتم، واعبدوه هجودا بهذا الفهم تحدث شوقى عن ثورة 1919 وانخرط فيها بشعره الذى آن لنا أن نقرأه قراءة جديدة تكشف لنا عن الجديد فيه وخاصة فى المرحلة الأخيرة من حياته، وهى التى تلت عودته من المنفى وشهدت هذه النهضة الوطنية الشاملة التى أشرت إليها فى السياسة والثقافة والمجتمع. شعر شوقى فى هذه المرحلة الأخيرة مختلف عن شعره فى المراحل السابقة. فهو لم يعد شاعر الأمير، وإنما أصبح أمير الشعراء. وهو فى هذه المرحلة الجديدة يجتهد فى التحرر من التقاليد الموروثة التى كان يحافظ عليها فى شعره السابق، ويقترب من الشعراء الشباب الرومانتيكيين، ويرأس جماعة أبوللو التى كانت تضمهم. وهو فى هذه المرحلة يواصل نظم قصائده، لكنه يضيف إليها ما نظمه فى الشعر المسرحي. وهو اضافة لها وزنها. لمزيد من مقالات بقلم: أحمد عبدالمعطى حجازى