فى طفولتى وصباى لم أكن أعرف أمير الشعراء أحمد شوقى كما كنت أعرف صاحبه وتوءمه شاعر النيل حافظ إبراهيم. وأنا نشأت فى بيئة ريفية لم تكن تسمح إلا بالقليل الذى يسد الحاجة من أقرب طريق يسمح بالاختيار. لكن ديوان حافظ كان من ضمن هذا القليل الذى وجدته فى مكتبة أبى فقرأت ما استطعت أن أقرأه منه وأنا بين العاشرة والثانية عشرة، على حين لم أعرف عن شوقى إلا ما غناه من قصائده عبد الوهاب وأم كلثوم وما كان يطلب منا حفظه فى المدرسة، وخاصة من حكاياته التى نظمها على مثال حكايات الشاعر الفرنسى لافونتين. ومازلت أذكر منها حكاية «الثعلب والديك» التى تنتهى بقوله: يخطئ من ظن يوما أن للثعلب دينا! وفى بلدتنا (تلا منوفية) كان المناخ العام منحازا لحافظ ولا يكاد يذكر شوقي. إذ كان شوقى منسوبا للبيت الحاكم وكان حافظ منسوبا للشعب ولثورة 1919 التى شارك فيها التلاويون كما يشهد بذلك المؤرخ عبد الرحمن الرافعى فيما كتبه عن الثورة ويومياتها التى نقرأ فيها عن المظاهرات التى اندلعت فيها خلال شهر مارس 1919، كما اندلعت فى غيرها من مدن البلاد وقراها وأن المحتلين الانجليز كانوا يرسلون قوات لقمع هذه المظاهرات والاعتداء على المشاركين فيها ولهذا لجأ المصريون إلى خلع قضبان السكك الحديدية ليحولوا دون وصول القطارات التى تقل هذه القوات وهذا ما حدث فى تلا كما حدث فى غيرها. ونحن نقرأ ما كتبه طه حسين عن حافظ وشوقى فنراه يقول عن أمير الشعراء إنه سجن فى قصر الخديو الذى كان يعمل فى «القلم الأجنبي» أى العلاقات الخارجية بعد عودته من بعثته فى فرنسا، وأن عمله فى ديوان الخديو حد من حريته كشاعر كما يمكن أن نفهم من كلام عميد الأدب الذى يختمه بقوله «فليت شوقى لم يكن شاعر الأمير قط». أما محمد حسين هيكل فيرى أن الظروف التى عاش فيها الشاعران أعطت حافظا ما لم تعطه شوقى ووضعته فى مكان حاول شوقى أن يلحقه فيه ويجاوره «فقد كان الوقت كما يرى الدكتور هيكل وقت حافظ، والعصر عصر حافظ، والمجال مجال حافظ». وهذا ما نجده أيضا فى تقديم أحمد أمين لديوان شاعر النيل إذ يرى أن «شبيبة الوطنية إمامهم حافظ، وشبيبة الفن إمامهم شوقي». وأظن أن هذا هو ما ترجمته الألقاب التى خلعت على الشاعرين، فحافظ شاعر النيل أى شاعر البلاد وشعبها، وشوقى أمير الشعراء أى رب الفن وسيده المبدع. فإذا انتقلنا إلى ما كتبه العقاد عن شوقى فى كتاب «الديوان» فسوف نرى موقفا بالغ العنف ضد شوقى تبناه الكثيرون الذين شككهم العقاد فى شاعرية شوقى وحتى فى وطنيته وحدثهم عن «عاداته الخصوصية ومنازعاته الليلية»؟ وولائه للقصر واستغلاله وظيفته فيه وقيامه بتوزيع الهبات على من يشاء، ورشوته الصحف التى تمدحه! هذا هو المناخ الذى نشأت فيه وتأثرت بما كان يسوده من مواقف إزاء الشاعرين الكبيرين، ولم أراجع فيه نفسى إلا حين انخرطت فى حركة التجديد الشعرية التى كان عليَّ فيها أن أعيد قراءتى شوقى وحافظ والعقاد وطه حسين وغيرهم فاكتشفت أولا أن شوقى ليس شاعرا واحدا كما قال عنه طه حسين وإنما هو أكثر من شاعر، فشوقى شاعر الأمير الموظف فى الديوان غير شوقى العائد من المنفى متحررا من عمله السابق متفرغا لنفسه ولفنه ينطق بلسانه هو لا بلسان سواه وأنا مع طه حسين، لكنى لا أميز فى شوقى بين الموظف وغيره وإنما أميز فيه بين الشاعر التقليدى والشاعر المجدد الذى أوحى لى قبل خمسين عاما أن أكتب عنه دراسة نشرتها مجلة «الهلال» بعنوان «شوقى رومانتيكيا» اعتمدت فيها على شعره المسرحى كما نجده فى «مجنون ليلي» وفى «مصرع كليوباترة». ثم أكتشف بعد ذلك أو أجد أن شوقى ليس أقل وطنية من حافظ رغم اشتغاله فى القصر واتصاله بالطبقة الحاكمة ورغم بعده عن وطنه فى السنوات الأربع التى قضاها منفيا فى اسبانيا. والفرق بين وطنيات حافظ ووطنيات شوقى أن الأولى تفيض بروح مصرية شعبية تمتزج فيها لغة الحديث اليومى بلغة الحماسة ولغة السخرية. أما شوقى فيظل محافظا على لغة مثقفة تجمع بينهما فى لغة التراث من رصانة وتقاليد محفوظة وما فى لغة العصر من صور وانفعالات صادقة. حافظ يفخر بوطنه ويسخر من الإنجليز حتى يصبح شعره فى بعض الأحوال قريبا من الحديث العادي. وشوقى ينفعل ويثور فيصبح شعره فنا ومجازا. ومن هنا تميز شعره فى الثورة بالإثارة والجمال. والثورة فى ديوان شوقى هى الثورة المصرية «ثورة 1919 لكن ثورة 1919 عند شوقى فكرة قبل أن تكون حادثة. فكرة يتمثل فيها نزوع الإنسان لتحطيم القيود التى تغل يده وعقله وقلبه ولسانه وتحوله إلى شىء أو متاع. الثورة عنده هى البحث عن المدينة الفاضلة، وهى اللحظة التى يستعيد فيها الإنسان إنسانيته ويعيشها، من هنا كانت الثورة المصرية بداية أفضت بشوقى إلى غيرها من الثورات فغنى لها وغنى للثورة السورية ضد المحتلين الفرنسيين، وللثورة الليبية ضد المحتلين الايطاليين. ولم ينس الثورة الفرنسية التى اعتبرها تراثا لكل البشر، ولم يفرق بين ثورة ضد محتل أجنبى وثورة ضد طاغية أو ضد نظام مستبد. دم الثوار تعرفه فرنسا وتعلم أنه نورٌ وحقٌ لمزيد من مقالات ◀ بقلم: أحمد عبدالمعطى حجازي