الحضارة الغربيّة بلا قلب.. لقد جرى تشييد حضارة الإنسان فى غيْبة الإنسان. إنَّ العالم يحتاج إلى الإصلاح الحضاري. هذا هو جوهر المشروع الفكرى للدكتور رشدى فكّار.. ذلك الفيلسوف المصرى الذى تحمِل اسمه مدرسة رشدى فكّار الإعدادية فى مركز أبو تشت محافظة قنا، ويحمل أفكاره العديد من المؤيدين حول العالم.ولد الدكتور رشدى فكّار فى قرية الكرنك بقنا عام 1928.. وهى القرية التى ولد فيها القارئ العالمى الأشهر الشيخ عبد الباسط عبد الصمد. قطعَ الدكتور فكّار شوطًا طويلًا.. من المعهد الأزهري.. إلى الدكتوراه فى جامعة باريس عام 1956.. ثم الدكتوراه الثانية فى جامعة جنيف عام 1967.. ثم إلى التدريس فى جامعة محمد الخامس بالمغرب. اكتسب الدكتور رشدى فكّار ثقافةً موسوعيةً فى العلوم الإنسانية.. درسَ علوم الإسلام فى الأزهر الشريف، ثم درسَ علم الاجتماع فى باريس، وعلم النفس فى جنيف. أُعجب بعالم الاجتماع أوجست كونت ودرسَ أطروحاته.. وقد اقترب من فيلسوف العلم الشهير جاستون باشلار.. وكان يجالسُه فى بعض تأملاته المسائية على ضفاف نهر السين. كتب الدكتور رشدى فكّار بالعربية والإنجليزية والفرنسية.. نشر «17» كتابًا والعديد من المقالات والأوراق. ومن أبرز مؤلفاته: نظرية القلق عبْر الفكر الاجتماعى الإسلامى وتأملات إسلامية فى قضايا الإنسان والمجتمع، ونحو نظرية حواريّة إسلامية، وأوجست كونت عملاق السوسيولوجيا وموقفه من الإسلام.يمكن القول إن الاجتهادات الفكرية للدكتور رشدى فكّار تقع ضمن جهود من يمكن تسميتهم فلاسفة الإسلام الحضارى.. وهنا جوانب ممّا ارتأى. أولًا.. القوة العضليّة أدت إلى انهيار الحضارة الإسلامية. بينما يرى كثيرون أن تراجع القوة العسكرية للمسلمين كان وراء هزيمة الحضارة الإسلامية، يرى الدكتور رشدى فكّار عكس ذلك. يقول: لقد انهارت الحضارة الإسلامية.. حين تغلَّب الجانب المادّى على الجانب الإنساني. لقد جرى التعامل مع الإسلام على أنَّه قوة عضليّة. وهكذا.. عندما كان العضَل قويًّا كانت المهابةُ قائمةً، ولمّا بدأ الضعف زالتْ المهابة. إن الدولة العثمانية كانت أكثر فترات الإسلام فى التمدد الجغرافى والقوة العسكرية.. ولكن بمجرد أن ضعُفَ السيف فى يد من يحمله انتهى الأمر. ثانيًا.. الفصل بين الدين والعلم. يرى الدكتور رشدى فكّار أنه يجب ألا يحلَّ العلم محلّ الدين، ولا أن يحلَّ الدين محلّ العلم.. كما أنه لا يجب تبرير العلم بالدين، ولا تبرير الدين بالعلم. ثالثًا.. المغرضون فى التعامل مع الإسلام. يرى الدكتور رشدى فكّار.. أن هناك ثلاث مجموعات مغرِضة فى التعامل مع الإسلام: مجموعة تغالى فى القطيعة، وتعكس مشكلاتها النفسيّة على الإسلام. مجموعة تتعامل مع الإسلام بشكل موسمي.. لحاجةٍ فى نفس يعقوب. مجموعة تتجمَّد على قشور النصوص، ولا تسبر أغوار الجوهر المضىء. يقول الدكتور فكّار: إن هذه المجموعات الثلاث لا فائدة تُرجى من ورائها.. ولابد من قيام مجموعات مستنيرة تقود مسيرة الإسلام الخالدة. رابعًا.. الدين ليس ظاهرة اجتماعية. يرى الدكتور فكّار أنّه من الخطأ تصوّر الدين وتناوله باعتباره ظاهرة اجتماعية تاريخية.. ثم تعميم ذلك على كلِّ الأديان. إنّ المعتقدات البدائية هى تعبير اجتماعي، ولكن الأديان السماويّة هى وحى الله على رسله وأنبيائه.. ومن ثمّ فهى لا تخضع للعلم الوضعي. ويذهب الدكتور فكّار إلى أن الذين يقولون إن الأديان السماوية من وضع المجتمع.. هم ملحدون ينطلقون من إنكار وجود الله. خامسًا.. أولوية الإصلاح الفكري. يؤيد الدكتور فكّار رؤية أوجست كونت فى أسبقيّة الإصلاح الفكري.. ذلك أن الفكر هو أساس الجهاز الاجتماعى بحسب كونت.. وأن فساد الفكر يؤدى إلى حالة من الفوضى العقليّة.. وإلى فساد الأخلاق والسلوك. سادسًا.. الأيديولوجيا.. المصلحة من دون قيم. يرى الدكتور رشدى فكّار أن الأيديولوجيا بدأت تنحو أكثر فأكثر نحو المصلحيّة. لم يعد هناك هدف قيمى إنسانى بقدر ما هو مجرد تبرير للمصلحة: الاستهلاك أو عائد الإنتاج.. فى المجتمعات الصناعية الكبرى تجرى الانتخابات تلو الانتخابات.. وتنتصر شعارات على شعارات. وحقائق المجتمع كما هى بلا تغيير. المحافظون والعمال فى بريطانيا.. الديمقراطيون والجمهوريون فى أمريكا. وحتى فى المجتمعات التى تزاول ما تُسمى الديمقراطية المباشرة فى النظم الموجّهة.. نجد أن الأيديولوجيا ليست تقدميّة ولا إنسانيّة.. بل هى تبريريّة مصلحيّة. ثمّة مستودعات شعارات موجودة.. يخرج منها الشعار المناسب فى الوقت المناسب. سابعًا.. انتحار العلماء المختصِّين فى دراسة الانتحار. يرصد الدكتور رشدى فكّار ظاهرة مثيرة للغاية: انتحار بعض العلماء الذين درسوا ظاهرة الانتحار ووضعوا توصياتٍ لمواجهتها..وهو ما يدّل على شرخ كبير فى البناء النفسى للعالم المعاصر! فى مجلة المناهل عدد مارس 1975 كتب الدكتور فكّار يقول: لقد انتقلت عدوى الانتحار من المرضى إلى المعالجين. وأحدث مثال على ذلك انتحار أحد كبار عمداء الدراسات الاجتماعية والفلسفيّة فى أمريكا جاكوب مورينو مؤسس المدرسة السيسيومترية.. أى القياس الاجتماعي. وهو العالم الذى درس ظاهرة الانتحار والعلاج النفسى الاجتماعى من بين ما درس.. إن التفسير البسيط لانتحار علماء الانتحار.. هو أنّهم لا يملكون الإيمان الذى يعطى المعنى للوجود والحياة. ثامنًا.. الحضارة الغربية ليست معجزة. يعطى الدكتور رشدى فكّار الأمل الحضارى بقراءته الموضوعية لمكانة وحدود الحضارة الغربية. يقول: من المغالطات السائدة أن الحضارة الغربية هى حضارة خارقة، وأنها عصيّة على الالتحاق بها.. تضخيمًا لها وتيئيسًا لنا. إنهم ينفخون فيها حتى يغامرنا القنوط والإحباط، وتضعف فينا الهمّة والعزيمة.. فنرضخ لسيادة الغرب التى لا تُقهر.. إن حضارة الغرب ليست معجزة.. وإنّما هى رحلة من مراحل تطور الإنسانية.. نعبُرها اليوم ونحن - للأسف - فى موقع المسود لا السائد.. بعد أن كنّا لقرابة ألف عام محور الكون.. إن الحضارة الغربية هى الغالبة اليوم.. لكنها ليست المبتدأ أو المنتهي.. يمكن لنا أن نتجاوز الوعكة الحضارية لنعود من جديد. يحتاج فلاسفة الإسلام الحضارى إلى إعادة القراءة، ويحتاج تراث العقل إلى إعادة التقديم.. كما يحتاج العلم إلى سيادة المجتمع من جديد. لاتزال الحضارة ممكنة. لمزيد من مقالات أحمد المسلمانى