اعتاد سكان القاهرة فى الأربعينيات المتأخرة من القرن العشرين، وهم عائدون إلى دورهم، أن يشتروا كتابا ما، كان ثمة صبية صغار، يقفزون على سلالم الأتوبيسات والترولليباصات والمتروات، ويضعون على أرجل الركاب كتابا صغيرا، لا يزيد بأى حال من الأحوال على الست عشرة صفحة، وله غلاف بلا لون ولا رسومات، لكنه عنوانه مكتوب بخط فارسى مزوق، ويصيحون بعلو صوتهم: اقرأوا حكاية الرجل الذى تزوج سبعين مرة، بخمسة مليمات. ............................................... كانت الجريدة وقتها بعشرة مليمات، وكان الناس فى حاجة لأن يتسلوا وهم فى رحلة العودة إلى البيت، وكان الفضول والحسد يأكلان قلوبهم ليعرفوا كيف يستطيع رجل واحد أن يتزوج بسبعين امرأة. ولا يكاد يمر أسبوع، حتى ينط الصبية مرة أخرى، وهم يصيحون: المرأة التى ألقت بزوجها من الطابق الرابع، بخمسة مليمات. ما حكاية هذه الكتب؟، ومن هو مؤلفها؟، وكيف توزع آلاف النسخ هكذا، بينما «طه حسين» و «توفيق الحكيم» و «عباس محمود العقاد» لا يوزعون كتبهم بهذه الآلاف؟ الحكاية أكثر غرابة مما نتوقع. مجرد عامل فى مطبعة، أمى لا يقرأ ولا يكتب، لكنه يتقن رص حروف الكلام فى ألواح الطباعة، هو برغم أميته الهجائية إلا أنه يأخذ الحروف بالشبه، حتى إن صاحب المطبعة أصبح مع مرور الوقت لا يأمن إلا له بسبب دقته فى العمل، لكن الديون تراكمت على صاحب المطبعة، فباعها، بأحبارها وماكيناتها وأوراقها وأكلاشيهاتها، ومن بين ما باعه مطبعة صغيرة كانت من نصيب هذا العامل الأمى، فأخذها تعويضا عن حقه، وافتتح دكانا صغيرا يبيع فيه السجائر والعاديات، ووضع المطبعة الصغيرة فى ركن من هذا الدكان.. العامل الأمى، كان ذا خيال جامح، فإذا ما حكى له أحد حكاية ما، أعادها على أصحابه فى المقهى، بعد أن يزيد عليها، وينتقص منها، ما يجعلها فى النهاية أكثر تشويقا من أصلها المحدوث، ولما اكتشف فى نفسه هذه الهواية العجائبية، قرر أن يستغلها، فعين له موظفا من هؤلاء الأفندية الذين يقرءون ويكتبون، وجعله يقرأ له صفحة الحوادث فى الجرائد كل يوم، وقرر له راتبا شهريا مقداره جنيهان كاملان، هذا غير سندويتشى الفول والطعمية، وحساب الشاى والشيشة فى المقهى كل يوم، فإذا ما استوقفته حادثة غريبة، قرر فورا أن يعيد صياغتها بطريقته الروائية الفاتنة، فيمليها على موظفه ببهاراتها الجديدة التى يرشها عليها، ويعود آخر الليل إلى المطبعة، يرص حروف الحكاية بدقته المعهودة، ويطبعها فى آلاف النسخ، ويدبسها مع الغلاف بمهارة تقنية عالية، ثم يوزعها على الصبية الصغار فيبيعونها بخمسة مليمات للنسخة الواحدة. وهكذا، اعتاد الناس أن يعرفوا تفاصيل كثيرة عن الرجل الذى عاد من الموت فأصبح اسمه «أحمد عواد الميت»، بخمسة مليمات، وعن الرجل الذى قتل سبعة وعشرين رجلا ولم يسجن، وحين سرق زجاجة خمرة من بار «كرالامبو»، لفق له «كرالامبو» قضية قتل خادمته فحكم عليه بالإعدام، بخمسة مليمات، وعن المرأة التى تتزوج الرجال لتقتلهم بعد أن تذوق عسيلتهم، بخمسة مليمات، وعن الممثل الذى يخلط بين أدواره الافتراضية التى يقوم بها على خشبة المسرح وبين دوره الحقيقى فى البيت، وعندما تضبطه زوجته مع الخادمة المربربة فى وضع غير لائق على الإطلاق، يخبرها بكل بساطة بأنه اختلط عليه الأمر، فما زال مندمجا فى دوره التمثيلى، فتصدقه الزوجة. لكن أغرب هذه القصص على الإطلاق، هى القصة التى حكى فيها الرجل الأمى عن نفسه بعد أن قرر أن يكتب سيرته الذاتية، هو فى الحقيقة كان يريد أن يتزوج امرأة غير زوجته العجفاء، امرأة ذات اهتزازات مثيرة فى مشيتها، كان قد شاهدها تمر مرة أمام دكانه، فلصقت فى ذاكرته، وطيرت النوم من عيونه، فتزوجها فى القصة، بل أنجب منها طفلة تشبهها، بعد أن جعل أتوبيس شركة النقل العام الذى يمر من أمام بيتها يدهس زوجها، وقت أن كان الموت الفجائى يصلح للتخلص من العوازل فى الحبكات الدرامية، وكان يريد أن يتعلم ويلبس ثوب المحاماة، فأصبح قاضيا، وكان ينحى القانون جانبا، ويحكم بما يمليه عليه قلبه، أما النساء فكان يمنحهن البراءة من أول جلسة، مهما كانت جرائمهن، وكان يريد أن يصبح صاحب العمارة التى يسكن فيها، فاشتراها هى وكل عمارات الشارع، بل أطلق على الشارع اسمه (شارع «عبدالصمد عبدالباقى الدسوقى بك»)، كان قد منح نفسه فى قصته لقب بك، ولما كانت كل أحداث القصة تقع فى هذا الشارع، فقد سمى القصة باسم «شارع الدسوقى بك»، وهذه هى القصة الوحيدة التى باعها بعشرة مليمات. ذات مرة، قرأ له الموظف الأفندى الذى يحسن القراءة والكتابة، كلاما على لسان وزير التموين الجديد، كانت الفترة الواقعة بين حريق القاهرة وقيام ثورة يوليو من عام 1952، شديدة السخونة، والحكومة لا يلبث وزراؤها أن يجلسوا على مقاعدهم الوثيرة، حتى يقالوا، ويأتى وزراء غيرهم، وتأتى حكومة جديدة، وكان هؤلاء الوزراء فى حاجة لاسترضاء الناس، فيصرحون بتصريحات جميلة تبعث الطمأنينة فى نفوسهم، بغض النظر عن صحتها، ويعدونهم بوعود براقة، ويبدو أن كلام السيد وزير التموين الجديد قد لاقى هوى فى نفس المؤلف الشهير «عبدالصمد الدسوقى»، فألف كتابا سماه «القوانين الجديدة للأسعار»، لم يكن السيد «عبدالصمد الدسوقى» يعرف أنه، للمرة الأولى، يضع نفسه بين فكى الأسد، وبرغم إشارات موظفه الأفندى له بأن هذا الأمر شائك بعض الشيء، ومن الأفضل له أن يكون موضوع الكتاب عن جريمة حلوان التى قتل فيها الأب ابنته بالتبنى بعد أن حملت منه، إلا أن خيال المؤلف جعله يغرق فى أحلام الثراء، فالناس فى حاجة لمن يطمئنهم على مستقبلهم الاجتماعى، وعندما يعرفون أن صفيحة الزيت السائل ستصبح بعد القوانين الجديدة بتسعة عشر قرشا، وأن رطل السكر سيصير بسبعة مليمات، وأن باكو الشاى سيباع بمليمين اثنين، لا شك أنهم ساعتها سيتخاطفون كتابه، ولن يقل دخله من هذا الكتاب بحال من الأحوال عن عشرة آلاف قرش. الموظف الأفندى وظف كل قدراته لمحاولة ثنى المؤلف عن هذا الأمر، ووضح له بما لا يدع مجالا للشك، أن صفحات الحوادث فى الجرائد أكثر أهمية ألف مرة من الصفحات السياسية، وأن المسئولين قد يغضون الطرف عن اتساع خياله فى وقائع الغرام وجرائم القتل وحوادث الخطف والاغتصاب، لكن مليمين اثنين ينقصهما من سعر صفيحة الكيروسين، من شأنهما أن يجعلا القيامة تقوم قبل موعدها، لكن المؤلف كان قد اتخذ القرار، وانتهى الأمر. الذى حدث أن دخله من هذا الكتاب تجاوز العشرة آلاف قرش بالفعل، لكن هذا الكتاب كان آخر كتاب يؤلفه ويطبعه ويوزعه هذا المؤلف المجهول، ذلك أن عربة بوليس من اللون الداكن، توقفت أمام دكانه ذات صباح، ونزل منها رجل له شارب كث، لم يفتح معه موضوع الكتاب كما كان يتوقع، وإنما قال له بأسلوب خشن جاف غليظ: هذا دكان لبيع السجائر والحلاوة الطحينية، وليس مطبعة لطباعة الكتب. حمل معه المطبعة الصغيرة، ووضع الشمع الأحمر على باب دكانه، وانطلق بسيارته الداكنة اللون. من يومها، أصبح من المعتاد أن يرى الناس فى مقهى «الجنائن» بشارع كلوت بك، رجلا يجلس فى ركن منزو، يلبس جلبابا أبيض، وعلى رأسه طربوش أحمر، وفى رجله بلغة ترابية، وبيده منشة، يهش بها الذباب، ويفكر فى نصيحة موظفه الأفندى الذى يحسن القراءة والكتابة، لماذا لم يعمل بها؟، لا شك أن قتل رجل لابنته بالتبنى، قصة بالغة الأثر، وكان يقول لنفسه: مالى أنا والسياسة؟ الناس الذين اعتادوا أن يروه يحدث نفسه، يظنون أن به لوثة، وبعضهم كان يقدم له شايا أو ينسونا على حسابه، هم لا يعرفون أنه، على أميته، ألف وطبع ووزع كتبا، أكثر مما وزع «طه حسين» و «توفيق الحكيم» و«عباس محمود العقاد».