من رأى ليس كمن سَمِع، أو كمن قرأ، إنها الشارقة، وإنه مهرجانها السنوى الكبير، الذى يحمل اسم «أيام الشارقة التراثية»، والكتابة الصحفية عن التراث والفنون فى العموم تأتى غالبا متشابهة، متكررة، وقد تغدو مُملة، فالأهم هو الرؤية والإحساس والمعايشة، لذا فإننى لن أكتب لك، بل سوف أحاول أن أُريكَ بعضًا مما رأيت، فى الشارقة ذاتها؛ المدينة وأهلها، ثقافتها ومهرجانها، أيامها وتراثها، لكن عذرا، لن أستطيع أن أُريك الآن هنا كل ما رأيتُ، اغفر لى عجزى، فقد رأيت 60 بلدا فى 3 أيام فقط، على أرض مدينة واحدة!. .................................. لا تستغرب، ولا تعتبر أن ما سبق هو من قبيل الإثارة الصحفية المعتادة، فالمهرجان السنوى الذى افتتح الدكتور سلطان القاسمى حاكم الشارقة نسخته السابعة عشرة هذا العام، تحت شعار «حِرفة وحَرف»، واستمر على مدى 19 يوما، شاركت فيه وفود 60 بلدا من مختلف دول العالم؛ شرقه وغربه، من مختلف الأجناس والأعراق والديانات والحضارات، عرض خلاله البشر من شتى بقاع الأرض تراثهم، واستعرضوا هوياتهم، من خلال فنونهم وثقافاتهم، حِرَفِهم وحروفهم، ألعابِهم وأكلاتهم، وعندما رأيتُ كل ذلك خلال 3 أيام - هى مدة زيارتى مدينة الشارقة- فقد شعرتُ بأننى رأيتُ بالفعل بلدانَهم، امضِ معى فى الرحلة إذن، ولا تتعجب.. الشارقةُ ذاتُها، عندما وصلتُ إليها، وجدتُها مدينة مزدحمة، كما القاهرة، وربما أكثر، فالكل يرنو إلى السكن فيها، بمن فى ذلك العاملون فى الإمارات المجاورة، لكن الشارقة فى الوقت نفسه أيضا مدينة هادئة؛ هادئة الروح، عميقة المضمون، لا مجال للصخب أو العبث فيها، فهى تعرف طريقها، مما يسهل معه أن تعتبرها العاصمة الثقافية لدولة الإمارات العربية المتحدة.. ذلك الهدوء، ربما تفسره كلمات الدكتور عبدالعزيز المسلَّم رئيس معهد الشارقة للتراث ورئيس اللجنة العليا المنظمة للمهرجان، عندما قال: «الهوية الوطنية لها بوابة ونوافذ، بوابتها اللغة والتقاليد، ونوافذها الزى والحِرف اليدوية والفنون بأشكالها؛ فنون الألحان والتشكيل وفنون الطعام، ونحن فى الإمارات كنا نأكل ونلبس ونتزيَّن ونلعب بأيدينا لا بأيدى الغريب، ونستمتع بأوقاتنا. والأمة التى تتكئ على إرثها الثقافى والحضارى، وتصنع له ومنه واقعا مبدعا، وهى ترنو إلى المستقبل، هى أمة واثقة عزيزة، تتطلع لبناء حضارة جديدة بموازاة حضارتها الموروثة، ولا بد لها أن تكون هادئة مستقرة».. لكن الهدوء والاستقرار، لا يتحققان إلا بالانفتاح والتفاعل، والثقة فى النفس والإرث، دون خوف، وهذا ما تحقق على مدى «الأيام»؛ «أيام الشارقة التراثية»، التى تجمعت فيها وفود دول متباينة اللغات والثقافات، من شتى بقاع الدنيا.. زوار المهرجان، من أبناء الإمارات والعرب والأجانب، أبدوا سعادة واهتماما بعروض الفرقة القومية للفنون الشعبية من مصر، كما تعرفوا على حرفة «الخيامية»، وهى فن التطريز على الأقمشة السميكة، باستخدام الألوان الزاهية والخيوط البارزة لصنع الجداريات والسرادقات، وذلك من خلال حديث الشاعرة أمانى محفوظ وعرضها بعض أعمالها، حيث شرحت الخامات الجديدة التى أدخلتها كرقائق النحاس الإفريقى والحلى، كما قدَّم الفنان المصرى «عم صابر» عرض «الأراجوز»، الذى جذب زوار المهرجان من الصغار والكبار.
صناعة الحلوى العمانية، و»البوظة» التركية، والعسل اليمنى، وعروض الفرق الشعبية التراثية اليونانية والإندونيسية والبنمية، والفولكلور الرومانى، كلها أنشطة متنوعة جذبت أيضا جمهور «الأيام»، الذى بلغ إجماليه نحو 300 ألف، كما أقامت الفنانة الكويتية بدور المعيلى معرض «قديمك نديمك» وهو عبارة عن مجسمات صغيرة لشخصيات من البيئة الكويتية القديمة بأزيائها وعاداتها، فى المناسبات والأماكن المختلفة، لكن كان من ذكاء صناع المهرجان أيضا قيامهم باستغلاله جيدا لتقديم أنفسهم، وثقافتهم.. قدَّم الإماراتيون تراثهم وفنونهم، فى البيئات المختلفة من البحر إلى الصحراء، عبر العروض الفولكلورية للفرق الفنية، ومن خلال قوارب الصيد القديمة، المعروفة باسم «الشاشة»، واستعراض عملية صناعتها من سعف النخيل، كما عرض نادى الشارقة للصَقَّارين عددا من الصقور المدربة والمهجنة والمحنطة، مع التعريف بأنواعها، وقدَّمت لجنة الحرف التراثية برئاسة خلود الهاجرى نموذجًا لحفل العُرس الإماراتى القديم. وحتى يتكامل الجانب النظرى مع المشاهدة التطبيقية، جاءت أنشطة «مجلس الخبراء»، التى حدثتنا عنها عائشة الحَصَّان مدير مركز التراث العربى فقالت: «إن الأنشطة شملت تقديم محاضرات نظرية للأكاديميين والمختصين حول عناصر التراث الثقافى فى الوطن العربى، وما تم تسجيله ضمن قوائم اليونسكو التراثية، مثل «الأراجوز» فى مصر، والفخار فى مدينة «سجنان» بتونس، و»الفجَّارة» وهو نوع من أنواع الرى التقليدى القديم فى الجزائر. وبالإضافة إلى المحاضرات النظرية هناك جدارية تفاعلية عن الحرف التقليدية ولكن بشكل حديث، بما يسمح لزوار المهرجان بممارسة هذه الحرف بأنفسهم، وقد اهتم الأطفال بحرفة الفخار وأمسكوا الطين بأيديهم لعمل أشكال مختلفة، وهذا هو الهدف، وهو أن يستشعر الزوار هذه المواد، عندما يمسكون بأنفسهم الإبرة فى التطريز أو القش أو غيرها».. ولعل الأمر اللافت للنظر أن فاعليات وأنشطة المهرجان لم تقتصر على مدينة الشارقة وحدها بل امتدت إلى 12 مدينة ومنطقة داخل الإمارة، مثل «خورفكان» و»المدام» و»النحوة» و»شيص» و»كلباء»، لنقل مختلف الأشكال التراثية للبيئات الجبلية والبحرية الإماراتية إلى جمهور «أيام الشارقة التراثية».. ولكن لماذا «كلباء»؟!. السؤال ليس اعتراضا عليها كمكان لإقامة الفاعليات بالطبع، لكنه سؤال عن سر التسمية، والبحث فى أسماء الأماكن والمدن هو بحث فى التراث أيضا، السؤال طرحه محمد البرزنجى مسئول العلاقات العامة والإعلام ضاحكًا، على سبيل «الحزُّورة» - أو «الفزورة» باللهجة المصرية- فى جلسة ودية، ضمت الزميلين إيمان شرف مراسلة التليفزيون البحرينى والمصور جاسم جناحى بالإضافة إليّ، وذلك فى ختام يوم عمل طويل شاقّ، وكانت الزميلة عبير ظلام المذيعة بإذاعة «صوت العرب» قد غادَرَتْنا كى تتمكن من إرسال رسالتها عن المهرجان إلى القاهرة، فى وقت مناسب قبل موعد البث. «البرزنجى» أجاب بنفسه عن السؤال مفسِّرًا سر التسمية قائلًا إن جغرافيا المدينة هى على شكل حرف «الباء»، ولذا فإن أصل الاسم هو «كالباء»، أى «مثل الباء»، لكن التداول الشعبى للكلمة عبر السنين جعل الاسم الرسمى والنهائى للمدينة هو «كلباء».. وفى الليلة الأخيرة لى فى الشارقة، وجدت محمد البرزنجى، الشاب الإماراتى، المُحمَّل بحلم وطنه، والمُفعم بالأمل فى مستقبله، يقول لى بودٍّ إنه يريد اصطحابى إلى عجمان القريبة من الشارقة، حتى أكون قد رأيت أكثر من إمارة خلال زيارتى، شكرتُه وانطلقنا بسيارته، سريعا وصلنا إلى عجمان، التى لا يفصلها عن الشارقة سوى خمس دقائق، وهناك على شاطئ الخليج، وبينما كانت حركة السيارات قد هدأت فى المساء، تأملت مياه البحر والأضواء الآتية من بعيد، خُيِّل لى أنها تأتى حاملةً الرسائل بحاضرٍ مشرقٍ، والبشائر بغدٍ مضيءٍ لهذا البلد، الذى قرر أن يعمل بإصرارٍ وجِدِّ، كى يمضى بقفزاتٍ متسارعةٍ نحو حلمٍ اسمه المستقبل. وفى طريق عودتنا، قلت لمرافقى إننى حقًا قد رأيتُ الآن أكثر من إمارةٍ واحدة، لكننى أيضًا رأيتُ 60 دولة، فى 3 أيامٍ، على أرض مدينة الشارقة.