خليل الجيزاوى روائى مخضرم، تنبأ له الناقد الكبير د. عبدالقادر القط - رحمه الله- قبل ما يقرب من أربعين عامًا بالتفوق الإبداعي، ورغم أن أعماله الإبداعية لم تتعدَّ خمس روايات وثلاث مجموعات قصصية، وكتابين فى النقد الأدبى، فإنه أصبح أحد الأصوات الإبداعية المتميزة على مستوى مصر والوطن العربى. له رصيد طيب من الجوائز، لكن فوزه الأخير بجائزة إحسان عبدالقدوس للرواية، يناير 2019، عن مخطوط رواية «أيام بغداد» يعد تتويجًا حقيقيًا لمشروعه الروائى. ماذا يُمثلُ لك الفوز بجائزة إحسان عبدالقدوس؟ تلقيتُ خبر فوزى بها بسعادةٍ غامرة وفرحة مُضاعفة لسببين: الأول: اقتران اسمى باسم الكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس، خاصة هذا العام، لأن احتفالية تسليم الجائزة كانت كبيرة، بمناسبة مرور مائة عام على مولده، والثاني: عودتى لكتابة الرواية بعد فترة طويلة، انشغلتُ خلالها بالعمل الإدارى فى المؤسسات الثقافية، حيث عملتُ مُديرًا عامًا، ثم وكيل الوزارة للشئون الأدبية بالمجلس الأعلى للثقافة. «أيام بغداد» رواية تحملُ دلالات كثيرة، حدثنا عن عالم تلك الرواية؟ الرواية ترصدُ فترة عملى بالعراق، وكنتُ لا أزال طالبًا بكلية الآداب جامعة عين شمس، وسافرتُ مثل آلاف الشباب للعمل بالعراق خلال الإجازة الصيفية، وكانت الحرب العراقية- الإيرانية مُشتعلة، وشاهدتُ حالة الدمار والخراب بالمدن العراقية. وكنت أعمل مديرًا للاستقبال بأحد الفنادق بمدينة النجف، التى تعتبرها إيران مقدسة، لوجود مسجد الإمام على بن أبى طالب رضى الله عنه بها؛ ولهذا نجت المدينة من قصف الطائرات الإيرانية، وبعين المُتابع والمُشاهد كتبتُ الكثير من التفاصيل الإنسانية التى عرفتها عن الشخصيات العراقية التى عشتُ معها خلال عملى هناك، ورصدتُ كيف كانت حالة العامل المصرى المغترب الذى سافر بحثًا عن تحسين معيشته، ثم عاد بعضهم جثثًا فى صناديق خشبية. القارئ لأعمالك يرى أن فيها ارتباطًا كبيرًا بالواقع، ومع ذلك يصعب الفصل بين هذا الواقع ورؤيتك التخيلية للأحداث، فهل ترى ان نجاحك يكمن فى هذا المزج بين الواقع والخيال؟ أحلمُ مع أبطال رواياتى بالتحليق فى العوالم السحرية المليئة بالدهشة، وثقافة الصورة تشعل المُتخيل الروائى عندي، كما أستدعى الكثير من القصص الأسطورية التى سردتها لى جدتى خلال مرحلة الطفولة، مثل حكايات الجن والعفاريت والشاطر حسن، وأنطلق من إشكالية الواقع وأحلام شخوصه التى تحاول تجاوز هذا الواقع، حيث يتوق معظم أبطال رواياتى أن يتجاوزوا هذا الواقع المحبط والمؤلم ليعيشوا تلك العوالم السحرية، وقد تحققت بعض طموحاتهم وأحلامهم المشروعة. رواية «مواقيت الصمت» تُعَد نقلة نوعية فى حياتك الإبداعية، فقد صدرت فى وقت صعب، وكانت توجه رسالة غير مباشرة عن سوء الأحوال السياسية فى مصر، حدثنا عن الأثر الذى أحدثته فى حياتك الإبداعية؟ رصدتُ فى تلك الرواية التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التى تمر بها القاهرة، وحالة الغليان والنيران المشتعلة تحت الرماد، والتى تُنذرُ وتُحذرُ أننا على وشك انفجار، وصدرتُ الرواية فى بيروت عام 2008، وبعد ثلاث سنوات قامت ثورة 25 يناير2011 التى نددت بسوء حالة الشعب الاقتصادية، وتزوير انتخابات مجلس الشعب عام 2010. وكانت الرواية قد ظلت عامًا كاملًا حبيسة أدراج أحد الناشرين المصريين، وكان عضوًا بالحزب الوطني، وذلك رغم تزكية بعض كبار النقاد لها، وكلما كنت أسأل عنها يظلُ يُراوغُ مُتعللا بالظروف التى تمر بها البلاد، فقلتُ له لن نُصلحَ أحوالنا إلا إذا عرفنا أخطاءنا ووضعناها على مائدة الحوار للمناقشة والدرس والتحليل، وعندما طلب منى رواية أخرى للنشر، وعلى الفور رفضتُ، وسحبتُ مخطوط الرواية منه.وعندما عرف ناشر لبنانى بها، طلب منى نسخة إلكترونية منها، وبالفعل صدرت الرواية من بيروت بعد ثلاثة أشهر فقط، وتلقيتُ أكثر من خمس دعوات لمناقشتها، فناقشها دكتور عبدالمنعم تليمة بنادى القصة بالقاهرة، وكتب عنها بجريدتى الأهرام والقاهرة، وبالفعل أحدثت جدلا كبيرًا وسط الحركة الأدبية، وقوبلت بحفاوة نقدية واسعة، وكُتبتْ عنها أكثر من عشرين دراسة نقدية. لماذا أهديتها للأديب الكبير يحيى حقي؟ بدأت علاقتى بالروائى يحيى حقى بلقاء عابر، وهو يسير بجوار سور حديقة الميرلاند بروكسي، أثناء فترة الدراسة بالجامعة، وكنا ندرسُ رواية «قنديل أم هاشم»، فسألته: لماذا كل هذا العشق للسيدة زينب؟ سألني: هل تسكنُ السيدة زينب؟ أجبته: لا. فقال: اسكنْ السيدة، ساعتها تعرف الإجابة. وبالفعل انتقلتُ للسكن بالسيدة زينب فى العام التالى مُباشرةً، وبعد عشر سنوات كتبتُ رواية «مواقيت الصمت»، وآثرت أن أهديها له، اعترافًا بفضل النصيحة التى وجهها لى. ما دمنا نتكلم عن مواقيت الصمت، فلابد أن نتطرق لناقدك الأثير د.عبدالمنعم تليمة - رحمه الله - أكثر من احتفى بأعمالك، ماذا فقدت برحيله؟ فقدتُ الكثير، فقد كان الدكتور تليمة الأب الحنون والناقد المُبصر الذى كان يقتطعُ من وقته الكثير لقراءة مخطوطات أعمالى الروائية والكتابة عنها، وكثيرًا ما زرته فى بيته بشارع الطوبجى بالدقي، وكنا نتكلم معًا ساعات طوال فى الشأن الثقافى، كل هذا فقدته برحيله، كما فقدت الساحة الإبداعية كلها ناقدًا حقيقيًا عملاقًا. أنت من الأدباء القلائل الذين درسوا الأدب العربى دراسة أكاديمية، فهل أثر ذلك فى كتابة الرواية؟ درستُ الأدب العربى عملًا بنصيحة أستاذى مأمون عبدالقادر أستاذ اللغة العربية بالمرحلة الثانوية، واقتفاءً لأثر الدكتور طه حسين، لأسير على دربه، وبالفعل أفادتنى دراسة الأدب العربى كثيرًا، فتعرفتُ على مناهج وطرق ومراحل كتابة الرواية عبر العصور الأدبية، وسعدتُ بأن درستُ الأدب العربى بكلية الآداب جامعة عين شمس على يد قامات النقد العربى مثل: عز الدين إسماعيل، عبدالقادر القط، محمد عبدالمطلب، وبالفعل تُحدثُ الدراسة فارقًا كبيرًا بين الأدباء، ولكن يمكنُ للأديب، الطبيب أو المهندس مثلًا، أن يقرأ كتب النقد الأدبى لتكتمل أدوات الكتابة لديه. منذ أربعين عامًا نصحك الدكتور عبدالقادر القط بكتابة القصة القصيرة، كيف ترى هذه النصيحة الآن؟ بدأتُ مثل الكثير من شباب الأدباء بكتابة الشعر بمرحلتى الدراسة الثانوية والجامعية، واشتركتُ بالجماعة الأدبية بكلية الآداب، وخلال مؤتمرها السنوى ألقيتُ قصيدة شعرية، فأشار لى الدكتور القط بالجلوس بجواره، وأخذ يسألنى هامسًا: هل تكتبُ القصة القصيرة؟ فقلتُ: نعم، فقال دعنى أقرأ لك، بعد عدة أيام قدمتُ له واحدة، فقال بعد قراءتها: أنت تجيدُ كتابة القصة أكثر من الشعر، ونصيحتى لك، أن تكتبَ القصةَ القصيرةَ، وبالفعل توقفتُ عن كتابة الشعر، ولا يزال عندى مخطوط ديوان شعرى أحفظُه بمكتبتي، وبعد هذه السنوات أرى أن أستاذى الدكتور عبدالقادر القط كان ناقدًا مُبصرًا وأفادنى كثيرًا، خاصة وأنا أرى الآن تحوّل الكثير من الشعراء إلى كتابة الرواية. ألا ترى أن عدد إصداراتك الإبداعية قليل بالنسبة لمشوارك الأدبى الذى يُقارب ثلاثين عامًا؟ بدأت كتابة القصص القصيرة عام 1984، ونشرتُ أكثر من خمس وعشرين قصة بالكثير من الدوريات الثقافية طوال عشر سنوات، حتى سألنى الكاتب الكبير بهاء طاهر: متى نقرأ قصصك فى كتاب مطبوع؟ ونشرتُ روايتى الأولى «يوميات مدرس البنات» عام 1998، ونشرت مجموعتى القصصية الأولى «نشيد الخلاص» عام 2000، وأنتمى إلى مدرسة يحيى حقى وإبراهيم أصلان التى تؤكد أن رواية واحدة ناجحة يحتفى بها القراء والنقاد أفضل ألف مرة من عدة روايات، فالكتابة عندى قليلة، لأنى أكتب ما أجده يستحقُ الكتابة، وربما أظلُ أفكرُ فى موضوع الرواية سنة كاملة، وأكتبها طوال سنة أخرى، المهم عندى أن أكتب ما أرضى عنه.