فى مشهد الحياة الحالي، ينفرد بطلٌ مهيمنٌ وحيد، متربعًا على عرش صدارته دونما منازع، نجماً لكل شباك، وصاحبًا لأعلى الإيرادات، ومُتصدرًا جميع (الأفيشات)، ومهيمنًا على ألباب الشيوخ قبل السيدات والآنسات، ونموذجًا للخير الطيب، ومجسدًا للشرير الوغد، تلهث أنفاس الحضور خلفه بينما هو يُخاصم ذاته وتخاصمه، ويراقبها لتراقبه، ويطاردها فتراوغه وتطارده، وهكذا تتصاعد الأحداث فى فيلم البطل الوحيد (أكل العيش). فى مشهد خلده وعى الناس وإبداع صناع (المتزوجون)، حين جسد الرائع القدير (جورج سيدهم) شخصية الزوج (حنفي)، كان عليه أن يبحث عن وسيلة للهرب من حصار الزوجة (نفيسة /راوية سعيد) المفروض عليه أكْلًا، كانت مفتونة به وهى ابنة أحد أثرياء الانفتاح (الجزار)، وهو أحد الأفندية المسحوقين بفعل إدارة (أكل العيش) لمفردات الواقع، ومع جهل (نفيسة) وتضييقها وأبيها الخناق على (حنفي)، تم إجباره على الزواج منها مضطرًا لفعلٍ وغير كاره لنفيسة، التى ترى فى ذاتها دونية طارئة على تكوينها، لكنها بحيلة جاهلة ارتأت أن إطعامه وهو المحروم بفعل فقر الواقع والوظيفة يمثل ضمانةً ولاء، وبعدما أجبر (حنفي) على ابتلاع قدرة (فول) وثلاثين بيضة، قرر الزوج المتخوم أن يخاطب العقل والضمير فى زوجته فقال (يانفيسة الإنسان بياكل علشان يعيش مش بيعيش علشان ياكل). منذ مشهد انطلاق خطاب حنفى الشارح مُخاطبًا ضمير ووعى الزوجة عام 1978م وحتى اليوم، وما كان انفتاحًا فى سبعينيات قرن مضى أصبح بفعل أسبابٍ عدة مفتوحًا، وبات على إنسان العصر أن يكرر عبارة حنفى مقلوبة ( يا كلَ نفيسة الإنسان بيعيش علشان ياكل مش بياكل علشان يعيش)، وهو ما أحال (أكل العيش) من وسيلة إلى غاية، وهو ما رفعها تدريجيًا من خانة الأدوار الثانوية فى الحياة إلى صف النجومية الأول والوحيد، لتهيمن على كل مشهد، وتسيطر على أى خطاب، وتنطلق من أرضيتها كل فلسفات الإدارات، ليستوى فى التفاعل الإيجابى معها اليسار واليمين، والعامة والخواص. إن مشهد الواقع الذى فُرِضَ عليه (أكل العيش) بطلًا، لا يُبرئ ساحتنا من تُهمَة المشاركة فى صناعة نجوميته، فالجميع تورطوا فى طغيان نجوميته، وإن كان لكلٍ درجته فى هذا التورط، غير أن أشد المتورطين جُرمًا هم أولئك الذين أصَّلُوا لهُ وعياً وعقيدة، وعمموه خطاب مرحلة، وأشاعوه منهج تبرير لكل نقص أو تجاوز، فصارت الفتاوى مبررة لطغيان صوت (أكل العيش) على أى صوت، وغدت صناعة الوعى والإبداع أسيرة توجيه أكل العيش وجمهور الشباك، واستحالت ساحات العلم بتدرج مراتبها مزادًا مفتوحًا لأكل العيش على حساب تغذية العقول. حين أحالنا مشهد الواقع إلى (الربيع العربي)، كان متلاشيًا خطاب البقاء والممانعة، وكانت هشة روح الانتماء وعقول الممانعة، وهو ما حوَّل ربيعنا العربى إلى (فوضي) استهدفتها إدارة عالمية، لتصنع من أحلام شعوبنا فى تطوير أوطانها كوابيس دامية، ومن ثمَّ كان اللجوء إلى البطل المُهيمن هو السبيل للنجاة، فراح (أكل العيش) يتحول إلى طوق نجاة لشعوب كانت آمنة ثم غدت لاجئة، وأصبح (أكل العيش) هو مظهر الحياة الوحيد الذى تتشبث به شعوبٌ تنهكها أزمات الوجود ومهددات المصير، ولكنها تفضل الصبر على أن تحلم فى خيمة لجوء بأكل العيش!. ثم طغى مشهد (أكل العيش) وصار كل (حنفي) أسيرًا لدى كل (نفيسة)، وتمنى كل مشاهد لمشهدنا أن يُصبح (حنفي) الذى استسلم تماماً للقيمات نفيسة التى تلقيها فى فمه، ليضمن بها الاستقرار، ويؤكد عبرها إخلاصه فى الولاء، ويرفض خلالها كل أصوات الانتقاد لنفيسة. ويظل مشهد الواقع مُأزومًا بفعل هيمنة البطل الوحيد (أكل العيش)، إذ إنه ينتج مشاهدين بدائيين، لا يكونون إلا ردة حضارية تحيل الإنسان إلى عصوره الأولي، وتحصر احتياجات ألفيته الثالثة بعد الميلاد فى ما كان يحتاجه أسلافه الأوائل قبل آلاف السنين، إن هذه الردة تُفسر طغيان خطاب الوعى المنفصل عن الواقع، وتُحتِّم طغيان خطابات التخدير الدينية والسياسية والإعلامية، وتفرز رؤى معلبة الطرح منقادة المِداد ومُشتتة للجموع، وتصنع إدارات مؤلَهَّة القرارات، وأوطانٍ محدودة القدرات، ومعطلة الطاقات، وهشة فى مواجهة أى ريحٍ لتحولات. هذا المشهد الطاغى فى سيناريو الواقع المطروح، يظلُ عارضًا بحكم التجربة التاريخية نماذج والحتمية الإنسانية تطورًا، فالله سبحانه وتعالى حين خاطب مجتمع البداوة الصحراوى قبل أكثر من أربعة عشر قرنا جعل (أكل العيش) دليلاً لوجوده حين قال (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِى أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)، كان هذا خطاب ليعرفوه، وحين صارت المعرفة كان التكليف (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)، حينها كان على الإنسان أن يستوعب أن طريق إعمار الحياة مفتوح حين يقرر أن يسودها إعمارًا لا أن يتسيد عليها وعليه (أكل العيش). لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى