نيوزيلندا حيث جرت المذبحة المروّعة التى اغتال فيها الإرهابى الأسترالى برينتون تارنت خمسين مسلماً أثناء صلاتهم فى مسجد مدينة كرايستشيرش هى بلدٌ مسالمُ مضياف، لديه أحد أكثر قوانين الهجرة انفتاحاً وإخاء إنسانياً للغرباء الذين ضاقت بهم الحياة والفرص فى أماكن أخرى. وحين نعلم أن نيوزيلندا يفصلها عن أقرب دولة إسلامية لها هى إندونيسيا 7500 كيلو متر فلابد أن تساؤلات هذه المذبحة تختلف عن التساؤلات السابقة بشأن الحوادث الإرهابية. أول هذه التساؤلات لماذا لم تبادر وسائل إعلام كبرى مثل صحف نيويورك تايمز وواشنطون بوست ومحطة سى إن إن بنعت هذه المذبحة بوصفها الصحيح كجريمة إرهابية؟... يقارن كثيرون بين أعداد ضحايا الإرهاب من المدنيين فى المجتمعات الغربية والإسلامية وأى عدد منهما يفوق الآخر. المسألة لا يمكن اختزالها فى مقارنات عددية لأن الأكثر أهمية هو الوعى بأن الإرهاب لا يقتصر على دين دون غيره سواء قام به أشخاص بشكل فردى، أو تنظيمات متطرفة، أو دول تقوم فكرتها العنصرية على كونها أرضاً لأهل دين بعينه متجاهلةً أصحاب الأرض الأصليين. بدا سلوك شعب نيوزيلاندا عقب المذبحة سلوكاً متعاطفاً متآخياً متضامناً متآزراً من مشهد احتضان رئيسة الوزراء جاسيندا أرديرن فتيات مسلمات وهى تتشح بالسواد وتضع غطاء رأس رمزيا، إلى مشهد عروسين يضعان زهور عرسهما على عتبة المسجد الذى وقعت فيه المذبحة، إلى جلسة للبرلمان النيوزيلاندى تبدأ بتلاوة آيات من القرآن. نيوزيلندا كدولة وأرض لم تكن أكثر من مكان اختاره الإرهابى الأسترالى لتنفيذ جريمته البشعة. ليس هناك إجابة على سؤال ولماذا لم ينفذ هذا الإرهابى جريمته على أرض بلاده؟ هل لأن تنفيذها فى نيوزيلندا كان أسهل بقدر سهولة الحصول على سلاح آلى أو سهولة استهداف مسجد فى بلدة هادئة بعيدة أو لمحض وجوده فى هذا البلد المسالم الوديع؟ ما نعرفه أن ثقافة اليمين العنصرى المتطرف أصبحت تسرى فى استراليا بشكل متزايد ومقلق، وكان رفض استراليا منذ سنوات استقبال مركب يحمل قافلة إنسانية من لاجئين مسلمين أمراً صادماً. الملاحظة اللافتة أن الإرهابى الأسترالى منفذ المذبحة لم يكن يهمه الاختفاء أو الفرار كما يفعل غالباً إرهابيو القاعدة وداعش وغيرهما من التنظيمات الدينية المتطرفة لكنه ارتكب جريمته علناً وحرص على تصويرها وبثها على شبكة الانترنت، والأكثر أنه ألحقها ببيان/مانيفستو من 75 صفحة يتضمن الأسس العقائدية والسياسية والفكرية وراء جريمته الإرهابية. نحن إذن أمام شكل جديد وغير مسبوق لإرهاب متعدد الزوايا الأيديولوجية من دينية وعرقية وسياسية. مبعث القلق الكبير فى جريمة كرايستشيرش أن الجانى يجهر بأيديولوجيته ويفتخر بها ويوظّفها مناسبةً يشيد فيها برفاقه من أصحاب الفكر العنصرى نفسه، بل ويحيى ملهميه الكبار من الساسة الغربيين ويذكر بالاسم صراحةً الرئيس الأمريكى ترامب، وزعيمة حزب الجبهة الوطنية الفرنسية مارين لوبن. ما يجعل الإرهابى الأسترالى مختلفاً عن أقرانه من إرهابيى القاعدة وداعش وغيرهما أن الأخيرين يتصرفون كذئاب منفردة فى الغرب، يقتلون المدنيين الأبرياء انتقاماً من دول وجيوش ومؤسسات توجد على أرضهم وتحاربهم بعد أن كانت تستخدمهم وتتواطأ معهم. أما فى حالة الإرهابى الأسترالى وكل الذين يشاركونه أيديولوجيته من أحزاب وقوى سياسية عنصرية متطرفة فإن كراهيتهم ليست موجّهة إلى دول وحكومات إسلامية، لكنها موجّهة بالأساس إلى المسلمين كأفراد والإسلام كديانة. وجه الخطورة فى مذبحة كرايستشيرش أن الإرهابى الأسترالى وكل من هم على شاكلته يؤمنون بأيديولوجية جديدة تنطلق من رؤية تاريخية صدامية لتفسير العلاقة بين الإسلام والمسيحية وتجدّد نفسها مع مقولات صمويل هانتينجتون عن الصراع الحضارى، وتؤسس رؤيتها المعاصرة على سياسات وقوانين الهجرة التى تُشجّع من وجهة نظرهم على تنامى الظاهرة الإسلامية فى الغرب، وتستمد رفضها وغضبها من مشاهد وتفصيلات خصوصية النمط المعيشى والثقافى لمسلمى الغرب وتباينه مع نظيره الغربى. سؤال اللحظة هو أين ضمير العالم وعقله وحكماؤه وقادته الروحيون؟ ما الذى يمكن ويُرجى أن تفعله وثيقة الإخوّة الإنسانية التى وقع عليها فى أبو ظبى شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان ولم يجف مدادها بعد؟ كيف يمكن وبسرعة البناء على هذه الوثيقة العظيمة الملهمة كأمل للخلاص من ثقافة تأجيج الصراع الدينى فى العالم؟ متى يتوقف هذا الهذيان العنصرى الذى أصبح يهدد السلام والأمن الدوليين؟ هذه، وغيرها، أسئلة تبحث عن إجابة. لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم