أكتب إليك رسالتى، وأرجو ألا تتعجّل فى الحكم علىّ، أو أن تصفنى بالأنانية، فما قاسيته من آلام، وما واجهته من متاعب يفوق الخيال، ولم يساعدنى أحد فى الخلاص مما أعانيه، ووجدتنى فى مهب الريح وحدى، فأنا سيدة أقترب من سن الخمسين، وقد نشأت فى أسرة متوسطة لأب يعمل موظفا بجهة حكومية، وأم ربة منزل، ولى شقيقان أكبر منى، وفور تخرجى فى كليتى النظرية، عملت بشركة قطاع خاص، وطرق بابى شاب رأته أسرتى مناسبا لى، فلم أتردد فى قبوله، ومرت الأيام، وأنجبت منه ولدين، ومضت حياتنا بلا منغصات سوى المناوشات الصغيرة التى تحدث عادة بين كل زوجين، وكنا سرعان ما نهدأ، ويعتذر من كان يبدأ بالشجار.. ولم يدم هذا الأسلوب الهادئ فى إدارة الحوار بيننا طويلا، إذ سرعان ما أصبحت مناقشاتنا حادة، وبالصوت العالى أحيانا بعد أن صار كثير السهر خارج المنزل مع أصدقائه، إذ تسلل الخوف إلىّ من أن يكون قد اتخذ منحى آخر غير الالتزام الذى عهدته فيه، وهدانى تفكيرى إلى متابعته، وعرفت أنه انخرط فى علاقة أخرى مع إحدى السيدات، وفى اليوم نفسه واجهته بما تأكدت منه، فلم ينف علاقته بها، فرددت عليه: طلقنى، فإذا به يلقى يمين الطلاق.. هكذا فعل بكل برود، فظللت أصرخ من أعماقى، وجمعت بعض ملابسى، وأخذت الولدين، وأسرعت إلى بيت أبى، وحاولت أمى أن تعيد المياه إلى مجاريها بيننا، لكنى صممت على الخلاص منه، لأننى لا أقبل أن أعيش مع رجل ينظر إلى غيرى، ويعترف بذلك بكل بجاحة، أما والدى فلم يعلّق على موقفى. وبعد حوالى شهر جاءتنى ورقة طلاقى غيابيا، فى الوقت الذى تزوّج فيه بالسيدة التى نسجت شباكها حوله، وطلقنى من أجلها، والحقيقة أن النار ظلت مشتعلة فى قلبى، فأردت أن يتجرع الكأس نفسها، وقررت الزواج بآخر، وطرق بابى كثيرون من المتزوجين الذين يريدوننى زوجة ثانية، بشرط أن أترك ابنىّ لدى أبى، فرفضت ليس من أجلهما، ولكن لأننى لا أقبل أن تكون لى ضرة، وبعد فترة، جاءنى أحدهم، وسألنى عن سبب رفضى له، وسرد لى كلاما معسولا عن حبه لى، وأنه كان يبغينى من قبل زواجى، لكن ظروفه لم تكن مواتية وقتها، فأخبرته بشرطى الأساسى للزواج به، وهو أن يطلق زوجته قبل أن أوافق عليه، وبناء على ذلك سوف أترك ابنىّ فى رعاية والدىّ، وتأخذ مطلقته أبناءها منه لكى تربيهم بمعرفتها! هذا الموقف القاطع منى جعله يفقد قدرته على التفكير، ولاحظت عليه علامات الاضطراب، وحاول أن يتجنب النظر إلىّ، ثم استجمع قواه، وقال لى: موافق، وافترقنا على وعد بأن يتقدم إلى أهلى بعد تنفيذ شرطى الذى لن أتنازل عنه، وظل على اتصال يومى بى، لكى يخبرنى بما فعله من أجلى، وبعد ثلاثة أسابيع جاءنى بقسيمة طلاقها، واشترى لى أثاثا جديدا، وتقدم لأبى طالبا يدى، وعلمت أمى بكل التفاصيل وناقشتها مع أبى، فإذا بهما يرفضانه، ويؤكدان لى أن زواجى منه سيفشل إن عاجلا أو أجلا، وأن تجارب الحياة تؤكد أن الزواج على أنقاض بيت تهدم بسببى، لا يمكن أن يستمر، وأن الانفصال هو نهايته المؤكدة، فلم أهتم لكلامهما، وأبلغتهما بموافقتى عليه، وتركت لهما ابنىّ، وكانا وقتها فى سن صغيرة، وانتقلت إلى حياتى الجديدة، وحاولت نسيان الماضى، وكل ما يذكّرنى به حتى ابنىّ، وكلما جاءتنى أخبار متناثرة عن مطلقى، بأنه يعيش سعيدا مع زوجته الثانية، أزداد كرها له، وحنقا عليه، وألعن اليوم الذى تزوجته فيه، وبالطبع كنت أخبر زوجى الثانى بكل كبيرة وصغيرة، ولا يعلّق بأى كلمة، ويبدو دائما غير مكترث بما أقول، فأفسر ذلك بأنه لا يريد مضايقتى، وأنه يثق بى، كما أثق به، إذ يكفينى أنه انفصل عن زوجته، وترك أولاده منها من أجلى، ومرت الأيام وأنجبت منه طفلة جميلة، وتمنيت أن أحيا فى هدوء بعد كل ما تعرضت له فى زيجتى السابقة. ودارت الأيام، واكتشفت أنه خدعنى، وأن طلاقه زوجته الأولى لم يستمر طويلا، حيث أعادها إلى عصمته، ويزورها بانتظام، بعد أن أقنعها بالجمع بيننا، ولم تجد حلا غير التسليم بالأمر الواقع، ثم تحاول اجتذابه إلى صفها، ولعبت على «وتر الزمن» فى عودته إليها، وشيئا فشيئا تسربت المشكلات بيننا، فى الوقت الذى تراجعت فيه علاقتى بأهلى، وانقطعوا تماما عن زيارتى، وظل معها طوال الوقت، وعبثا حاولت أن أثنيه عن ذلك، لكنه امتلك زمام الأمر، والحقيقة أننى لم أطلب الطلاق سعيا لاستعادته، كما فعلت «ضرتى»، وانطويت على نفسى، ولم يعد أحد يعرف عنى أى أخبار، ولكن زوجى اختفى للأسف، وصرت وحيدة مع ابنتى، وقاطعنى أبى وأمى، وابتعد ابناى عنى، فلم أعد أعرف عنهما شيئا، وعشت فى الظل بعيدا عن الجميع، وصارت ابنتى هى كل عالمى، وأخرج فى الصباح إلى عملى، وأعود منه بعد الظهر، وبرغم هذا الهدوء الظاهرى، فإن بركانا يغلى بداخلى، ويقتلنى «لهيب الظل» فى كل لحظة، فماذا أفعل لكى أستعيد توازنى المفقود، ويرضى عنى أبواى، ويغفر لى ابناى بعدى عنهما، وهما يبدآن خطواتهما الأولى فى الحياة العملية؟.. إننى أدرك تماما أننى مقصّرة فى حقهما، وأنهما عاشا سنوات تكوينهما بلا أب ولا أم، ولكننى تعلمت الدرس الذى يجب أن تتعلمه كل أم، وشكرا لك.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول: أوكل الله سبحانه وتعالى إلى الأم والأب رعاية أبنائهما، وعليهما أن يحسنا هذه الوكالة بعيداً عن الأنانية وتفضيل الذات، ومن ثمّ فإن الإنجاب شديد الأهمية، وهو مسئولية الأبوين معا، وعندما يفكر أى منهما فى الطلاق سعيا إلى زواج تحت أى ذرائع، فإن الأمر يقتضى منهما، ترتيب مسألة تربية الأولاد بالشكل التربوى الذى يجعلهم قريبين منهما على الدوام، وهو ما تسعى إليه قوانين الأحوال الشخصية، ولكن للأسف الشديد لم تلقيا أنت ووالد ابنيك بالا لما ستؤول إليه أحوالهما بعد انصراف كل منكما إلى أهوائه الشخصية، غير مكترثين بحاجتهما إليكما، فبرغم أن أهلك يؤدون دور الأبوين بالنسبة لهما، فإن الأمر الطبيعى أن ينتظر الإبنان من والديهما أن يتحملا المسئولية، مثل كل أب وأم، وهو ما غاب عنكما، وهو درس يجب أن يستوعبه جميع الآباء والأمهات، وعلى جانب آخر فإن الله تعالى أمر الأولاد ببر والديهم، ولو كانا كافرين، حيث يقول تعالى:«وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (لقمان:15)، ومن البر والإحسان، السعى فى إصلاحهما، أولًا بدعاء الله، والتضرع إليه أن يلهمهما الرشد، وأن يقيهما شر نفسيهما، وسيئ عملهما، ومناصحتهما بالمعروف، وبالحكمة والموعظة الحسنة، شفقة عليهما، ورجاء صلاحهما، فإن يصلحان فهو خير لهما ولأولادهما، وإن استمرا فى غيهما فقد أعذروا. أما طلاق زوجك الأول لك، وزواجه بأخرى، ثم ارتباطك بآخر بهدف الانتقام منه بالطريقة نفسها، بمعنى إجبار زوجك الثانى على تطليق زوجته الأولى، فإن التصرف على هذا النحو، يعد «قمة التخبط»، من جانب كليكما، فإقامة علاقة عاطفية خارج إطار الزواج باب للمفاسد، ومن أكبر الخيانات التى يجب التوقف عنها، ومرد هذه العلاقة العاطفية هو ما حرم الله تعالى من الخلوة، فإنه لا يجوز للزوجة أن تختلى بأجنبي، ولو جاء ليقوم بعمل فى البيت، بل يمكن أن تجعل أخاها معها وقت مجيئه، أما أن تحدث خلوة وكلام، فمن الطبيعى أن يتسلل الشيطان لنفسيهما، وقد حذر النبى صلى الله عليه وسلم من ذلك، فقال: «لا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما». لقد عشت فى وهم كبير حين ظننت أن الرجل الثانى يجعلك تعيشين فى حب وغرام، ولم ترى منه إلا معسول الكلام الذى يزينه الشيطان، ولكن بعد الزواج أدركت خطأك بعد أن فقدت الاستقرار ورضاء الأهل وولديك، ولم تدركى أن من يتزوج بهذه الطريقة، تكون له دوافعه الخاصة، وحين تقصر الزوجة فى أداء شئ، تتلاشى كلمات الحب والغرام، وتجد معاملة أخرى، فتندم فى وقت لا ينفع فيه الندم . أرجو أن تكونى قد تعلمت الدرس، وعليك بدء صفحة جديدة، وكفاك إضاعة للوقت فيما لا يفيد، وأرجو من أبويك أن يصفحا عنك، وأن يقيما بينك وبين ابنيك جسرا من المودة، ولعل زوجك الثانى الذى مازلت فى عصمته يدرك الخطأ الفادح الذى ارتكبه بهجرك، تاركا ابنته بلا أب، فالعواقب ستكون وخيمة على الجميع، ولا سبيل إلى إصلاح ما تهدم إلا بالعقل والحكمة، وعليك أنت الأخرى القبول بوجود زوجته الأخرى فى حياتكما، وليقسّم وقته بينكما، فإذا لم تجدى فى نفسك القدرة على قبول هذا الوضع، فلتطلبى الطلاق، ولتكن لك حياتك بعد ذلك دون تدخل من أحد، ولكن إياك والتصرفات الطائشة، فأبواك موجودان على قيد الحياة، ولديهما من الخبرات ما يساعدك على تجاوز كل العقبات، فتوكلى على الله، وإذا التزمت بهذا المنهج العاقل فى الحياة، فسوف يتحوّل لهيب الظل، إلى نسيم منعش، وربيع دائم، وفقك الله وسدد خطاك.