فى منفاه، كان «محمود بيرم التونسى» يتذكر حالته فى مصر، صحيح أنها لم تكن حالة هانئة، لكنه كان بين أهله وناسه، وإذا ضاقت به الدنيا، فإنه يستطيع بكل بساطة أن يذهب لزيارة صاحب أو قريب، يجد لديه شيئا يأكله، ولو كان تمرات مجففات، وسوف يستطيع أن يشرب شايا، ويدخن سيجارة، أما فى مدينة ليون الفرنسية هذه، فلا أحد يعرفه على الإطلاق. ............................................................. هو يسكن فى حجرة فى الطابق السابع، الحجرة ضيقة جدا، بالكاد تكفى سريرا وفسحة، ويدفع لهذه الحجرة إيجارا قدره ستون فرنكا فى الشهر، كان يأتيه شيك أسبوعى مسحوب على البنك من مدير الجريدة التى يكتب فيها فى القاهرة، لكن مدير الجريدة كان أحيانا كثيرة يتأخر فى الإرسال، ثم أصبح يرسل الشيك كل أسبوعين بدلا من كل أسبوع، إلى أن اكتفى بشيك واحد كل ثلاثة أسابيع بالمبلغ الأسبوعى نفسه، أجرة الحجرة تأكل غالبيته، ولا يتبقى له إلا ما يستطيع أن يشترى به الأوراق التى يكتب عليها للجريدة، وبعض الخبز الحاف. فى ليلة فبرايرية باردة من شتاء عام 1921، أحس «محمود بيرم التونسى» بجوع شديد، لم يكن فى جيبه أى فرنك، فجلس على سريره، وراح يتذكر آخر مرة أكل فيها، استطاع أن يحصى ثلاث مرات أكل فيها طوال الأسبوع كله، وتذكر أن آخر مرة كانت صباح الأمس، أى أنه له قرابة الأربعين ساعة لم يمضغ شيئا نهائيا، قال لنفسه، النوم يغنى عن الطعام، فمدد جسمه على السرير، لكنه تذكر أنه نام النهار كله للسبب نفسه، وكان الجوع يرعى فى جسمه. ارتدى ملابسه، وهبط إلى الشارع، فربما وجد بعض العرب أو الشرقيين، هؤلاء الذين يدرسون العلم فى الجامعات، فيتحدث معهم، ويرقون لحاله، البرد الشديد جعل الشوارع كلها خالية من الناس، وإن مر أحد، فإنه يسرع فى خطاه ليلحق ببيته كى ينعم بالدفء، وكانت بعض النسوة النحيفات يخطرن أمامه فى بهائهن الكامل، وكان يتعجب، كيف يكشفن عن أفخاذهن فى كل هذا البرد الصقيعي؟ «هو» كشرقى متمرس، يحب النسوة الممتلئات، هؤلاء اللواتى يقيس جسمهن بالمتر، ووجوهن بالشبر، لكن الجوع جعله ينسى أمر النسوة تماما، نحيفات كن أو ممتلئات، ذهب إلى ميدان الحمام، فى أوقاته العادية كان يحب أن يتفرج على الأطفال يملأون أكفهم بالحبوب، فيلتف حولهم الحمام يلقط الحبوب من بين أصابعهم غير خائف ولا وجل، وكان كثير من العرب يندهشون لأمر الحمام هذا، عندما وصل للميدان، لم يكن فيه أطفال ولا عرب ولا حمام، البرد طرد الجميع، وأخيرا قرر العودة للحجرة. فى طريق العودة، كان يتفرس كثيرا فى المأكولات المعروضة فى الفتارين، ويبدو أنه فى إحدى المرات أطال الوقوف والتفرس فى فطائر أحد محلات الحلوى، كانت الفطائر مدورة ومنقوشة ومزخرفة، ولما التفت حوله، وجد الناس ينظرون باندهاش إليه، فأدرك أنهم كشفوا أمر جوعه من كثرة النظر، فخجل من نفسه، وواصل طريقه للحجرة. البوسطجى فى فرنسا ليس له مواعيد مثل بسطجيينا الذين لهم مواعيد بيروقراطية ثابتة، لذا، ما إن تدب على الدرج دبة رجل، حتى يحسبها «محمود بيرم التونسى» دبة رجل البوسطجى حاملا شيكا من جريدته فى القاهرة، لكن الغريب فى الأمر أن أناسا كثيرين كانوا يصعدون على الدرج، وليس من بينهم البوسطجى، وأبوابا كثيرة كانت تطرق، ليس من بينها بابه، ولما سكتت الأصوات كلها على درجات السلم، أيقن أن أحدا لن يأتى. «محمود بيرم التونسى» يعرف أن الجوع له ثلاث مراحل، المرحلة الأولى، اشتهاء أكل أى شيء، حتى أوراق الشجر وعشب الطرقات، الثانية مغص شديد فى الأمعاء، الأخيرة غيبوبة وهذيان فى الكلام وزوغان العينين، بعدها لا شيء غير الموت، حمدا لله أنه مازال لم يهذ بالكلام بعد، لكنه انطلق فى حجرته الصغيرة كالمجنون يقلب المرتبة والأوانى بحثا عن أى شيء يأكله، كان يتحسس بيده على المرتبة، وكان جوعه يهييء له أنها محشوة بطعام ما، فيشقها ولا يجد غير طبقات من القطن، ولما فرغ من البحث، وقعت عيناه على بصلة منزوية فى ركن تحت السرير، لا يعرف منذ متى هى مركونة هكذا، لا بأس، فلتكن هى عشاء الليلة. فى الإسكندرية، وفى ليالى الفقر الشبيهة، كان يشوى البصلة على نار هادئة، وكان لها طعم حلو، خاصة فى ليالى الشتاء، وبرزت المشكلة الأكبر، من أين يأتى بالنار؟ فليس لديه وقود، بل هو حتى لا يملك عود ثقاب، للحظة فكر أن يهبط للشارع بحثا عن بعض الأشياء الجافة كقطع الخشب المتناثر أو الكرتون أو بقايا الحطب، لكنه تذكر أنه ليس فى بلاد الشرق، ومدينة ليون الفرنسية شوارعها نظيفة وطرقاتها تبرق، ورجال البلدية لا يسمحون لأحد حتى بإلقاء عقب سيجارة على أرضية الشارع، وحتى لو غافلهم أحد الشرقيين وفعل ذلك، فإن الكناسين سرعان ما يقومون بما عليهم، ليس هذا فحسب، بل يستدعون عربة الرش لترش الطريق بعد كنسه، تبا لهذه الحضارة النظيفة، وتبا لهؤلاء اللامعين. نظر فى حجرته، فلم يجد غير بعض الكتب التى تساعده فى كتابة مواد جريدته فى مصر، والتى تؤنس وحدته فى ليالى المنفى الطويلة، كان من بينها ديوان أبى العتاهية، وقاموس عربى فرنسى يساعده فى فهم ما استشكل عليه من اللغة الأورباوية الرقيقة، أمسكهما بيديه، فعرف أنهما يفيان بالغرض، فتح باب شقته، وطرق على الباب المواجه، ولما فتح له صاحب البيت، طلب منه بكل حياء عود كبريت. الشرقيون، إذا طلبت من الواحد منهم قرشين، يعطيك بعض النقود، أما هؤلاء الأوروبيون، فإنهم يأخذون كلامك كما هو، فيعطونك قرشين بالفعل، لذا، فقد دخل الرجل، وعاد إليه بعود ثقاب بالفعل. عود الثقاب الذى أحضره له الفرنسى الدقيق، كان من النوع المطلى رأسه بالفسفور، يحكه الواحد على أى مسطح معدنى، فيشتعل، لكن ماذا نفعل مع الحظ العجائبى، ظل «محمود بيرم التونسى» يحكه فى جميع الأسطح المتاحة فى حجرته، وكان جزء من الرأس يتطاير مع كل حكة، حتى لم يبق فى العود شيء يمكن أن يشتعل. الجوع كافر، جعله ينط مرة أخرى، ويطرق باب الجار، الذى ما إن فتح ولقيه، حتى أغلق الباب بغلظة، وقبل أن يدخل لحجرته، وجد رجلا آخر يصعد السلم، فطلب منه كبريتا، احترس هذه المرة ولم يطلب عودا، الرجل أعطاه علبة كاملة لها حكاكة، كانت بالنسبة له كالكنز. أشعل النيران فى القاموس العربى الفرنسى، وفى أشعار أبى العتاهية، وفى خطابات أسرته له التى يقولون له فيها كلاما عاطفيا، وفى الرسائل التى بعثها إليه من القاهرة صديقاه الأثيران «الموسيقار «سيد درويش» الذى كان يحدثه عن أحوال الغناء والمسرح والموسيقى، وبراعته فى ابتداع إيقاع مصرى أصيل، والكاتب «عباس محمود العقاد»، الذى كان يحدثه عن الأشكال الشعرية الجديدة التى ستحطم أشعار أمير الشعراء، وتلقى بها فى مذبلة التاريخ، هذان الصديقان اللذان كانا يهوّنان عليه أيام المنفى، ولما توهجت النيران، شوى بصلته. قشرها برفق، وراح يلتهمها بنهم كبير، كان جائعا جدا، كان يكاد يموت. مدد جسمه على السرير، وراح يسترق السمع للخُطاى الصاعدة على الدرج، فالبوسطجى فى هذه البلاد الأورباوية، ليس له مواعيد بيروقراطية مثل بوسطجيينا، ومن يدرى، ربما يطرق عليه الباب، ويمنحه شيكا من جريدته فى القاهرة. كان ثمة من ينبغى أن يتوجه إليه بعتاب ما، لكنه لم يكن يستطيع أن يحدده، وكان ثمة من ينبغى أن يقدم له اعتذارا ما، لكنه لم يكن يستطيع أن يحدده، وكان يتمتم: ليه أمشى حافى وانا منبت مراكيبكم ليه فرشى عريان وانا منجد مراتبكم ليه بيتى، خربان وانا نجار دواليبكم هى كده قسمتي؟ الله يسامحكم ساكنين علالى العتب، وانا اللى بانيها فارشين مفارش قصب، ناسج حواشيها قانيين سواقى دهب، وانا اللى ادور فيها يا رب ما هوش حسد لكن بعاتبكم من الصباح للمسا، والمطرقة ف إيدي صابر على دا الأسا، حتى نهار عيدي ابن السبيل انكسى، واسحب هرابيدي ليه تهدمونى وانا اللى عزكم باني أنا اللى فوق جسمكم قطنى و كتاني تتعروا من مشيتى واخجل أخاطبكم.