اعتدت أن أتناول في كل أسبوع شيكاً علي البنك يرسله مدير الجريدة التي أحررها في القاهرة. ولكنه أخذ يرسل الشيك في كل أسبوعين ثم تقدم خطوة إلي الأمام فجعل يرسله كل ثلاثة أسابيع والمبلغ الأسبوعي هو نفسه. سكنت في حجرة في الدور السابع من أحد المنازل العتيقة أُجْرتها ستون فرنكاً في الشهر وفيها كنت أحبس نفسي للكتابة لأمد الجريدة بالمواد التي تكفيها كل أسبوع. في الأسبوع الأول من شهر فيفري 1921 اشتد البرد وغطت الثلوج شوارع وسطوح الديار. ووقفت الأشجار مجردة من الأوراق كالهياكل العظمية. وقد تناولت الطعام في هذا الأسبوع مرتين أو ثلاثاً. وقبل الليلة التي أدون فيها هذه الكلمات رقدت بلا عشاء وفي مثل تلك الحال يشعر الإنسان أن النوم يغني عن الطعام بعض الغناء فبقيت في الفراش أنظر من النافذة إلي السماء المكفهرة ولا أعرف إن كان الوقت ضحي أو مساء. وكلما سمعت وقع الأقدام علي السلم حسبتها خطوات ساعي البريد جاء بالخطاب ( المسوقر). وعندما سمعت نشيش المقلاة عند جيراني وصعدت رائحة (البيفتيك) يقلي في الزبدة علمت أنه الظهر. وخيِّل إليَّ أني لو نزلت إلي المدينة لعثرت علي كثير من الأصدقاء الشرقيين الذين يطلبون العلم ويعيشون في رفاهية فنزلت فرأيت الشوارع خالية من المارة والمطاعم والقهوات مقفلة علي من فيها. وكم تري عابر سبيل يمشي مسرعا كأنه ذاهب إلي أمر مهم وهو في الحقيقة ليس لديه ما يقصده. لمحت طالباً مسلماً مقبلاً علي ( المادة) التي أسير عليها فلما قاربني أدار وجهه ليتفرج علي واجهة أحد المحلات التجارية ولكنها كانت مقفلة بالباب الحديدي! فانتقلت من تلقاء نفسي علي (المادة) الأخري. وواصلت السير إلي ميدان البلدية وكنت أتبسط لمنظر هذا الميدان الذي يجتمع فيه عشرات الألوف من الحمام الأبيض والأزرق وتذهب إليه الأمهات والمربيات ومعهن الأطفال الصغار وكميات من الحبوب فيأخذ الطفل الذي لا يتجاوز الثالثة كمية من الحبوب في يديه ويعرضها للحمام فترتفع عن الأرض طائرة بجناحيها وتلتقطها من كفه بلا خوف ولكن الميدان في ذلك الوقت كان خلواً من الأطفال والحمام. وبينما كنت أتأهب للرجوع من شدة البرد قابلت خليطاً من الطلبة فيهم المصري والتركي والتونسي فصافحني بعضهم فشعرت بالدفء يسير في جسمي من هذه المصافحة. ولم أستطع النطق بكلمة غير رد التحية وكفي. في الساعة الرابعة بعد الظهر أضاءت مصابيح المدينة وإن كان في حساب أهلها أنهم في النهار! وما هي التسلية التي يجدها من يجوع ثلاثة أيام إلي أن تحين ساعة النوم. كان منظر (المرقاز) والأجبان والخبز في الحوانيت أجمل وأشهي من منظر المجوهرات والفراء والمنسوجات الفاخرة. لقد كنت أجد نفسي واقفاً أمام واجهة الحلواني أتفرج علي الفطائر المنقوشة في ذهول ثم أنتبه وأحسب أن الناس تراني وتعلم حقيقة أمري فأنصرف خجلاً. للجوع ثلاثة أدوار: الأول يشتهي فيه الجائع كل شيء حتي الحشائش وأوراق الشجر. والثاني مغص والتواء في الأمعاء. والثالث غيبوبة وأحلام وهذيان. عدت إلي الحجرة فخيل إليَّ أن البرد فيها أقسي منه في الشارع. وأوحي إليَّ الهذيان أن أستعمل القاعدة المشهورة: الحاجة أم الاختراع. وماذا عسي أن يخترع الإنسان؟ ألمس بيدي الفراش فأجده طرياً فأحسب أن حشوه يصلح للغذاء هل أبيع البطانية التي أملكها؟ ولكن أين هو المشتري في تلك الساعة؟ فتحت كل (قجر) وقلبت كل وسادة لعلني أجد تحتها قطعة من الخبز أو ما يشبه الخبز. وقلبت ( الكنبة) بحركة عنيفة كالمجنون فلاحت لي بصلة تلمع قشرتها الذهبية تحت النور. والبصل لذيد إذا شُوي في النار... ولكن لا أملك الوقود ولا الثقاب. ولسنا في مدينة شرقية حتي نجد بسهولة الأوراق والأخشاب ملقاة في المزابل أو نجد من نستوقفه ونطلب منه عودا من الثقاب علي سبيل المروءة... أعددت الوقود من المواد الآتية: قاموس عربي وفرنسي. ديوان أبي العتاهية. عدة خطابات من الأصدقاء والعائلة. وحسبت أن صاحب المنزل لا يبخل عليَّ بالثقاب فقرعت الباب وكانت الساعة التاسعة مساء فخرج كالمنزعج. ولما طلبت إليه عوداً من الثقاب أطرق لحظة ودخل ثم عاد ومعه عود واحد من النوع الملبس ( بالفوصفور) الذي يوقد بالحك علي أي جسم صلب. ولكنه أبي أن يشتعل علي جانب الموقد الحديدي وأنا أحكه برفق وكياسة وكانت رأسه في كل حكة تطير جزءاً بعد جزء. فقرعت باب الرجل مرة أخري فلما رآني أطلب عودا آخر لوي وجهه وأغلق الباب بعنف. وكان أحد الجيران في تلك اللحظة صاعدا أعلي السلم ينظر إلي ما يجري فقدم لي علبته بحالها. ارتكزت البصلة العزيزة بين قصائد أبي العتاهية وخطابات سيد درويش وعباس العقاد وصعد اللهيب من الكانون يدفيء الحجرة وينيرها إلي أن احترقت جميع الأوراق وبحثت عن البصلة فوجدتها قد سقطت من بدء اشتعال النار في أسفل الموقد ولم ينضج منها غير ثوبها الخارجي..ولكن الدفء وحده في بلد مثل ليون يعد لقمة كبري. ولاسيما مع النوم.. مقاطع من مذكرات بيرم التونسي التي تصدر كاملة خلال أيام عن قطاع الثقافة بأخبار اليوم في سلسلة " الروائع"