كتب:د. طلعت عفيفي تتنوع صور الملكية للأموال ما بين ملكية فردية وملكية عامة. أما الملكية الفردية فهي ما يحصله الأفراد من أموال نتيجة عمل مشروع قاموا به, أو حصلوا عليه بوسائل أخري مشروعة كالهبة والميراث ونحو ذلك. ولا ينكر الإسلام حق الأفراد في هذه الملكية الخاصة بهم. وأما الملكية العامة فهي الأموال التي تملكها الجماعة كلها من غير تعيين أفراد بأشخاصهم, وهو ما نسميه الآن بالخزانة العامة, ومواردها متعددة كالضرائب والخدمات التي تؤدي بمقابل, والموارد العامة التي تدر دخلا علي المجتمع, ويتولي صيانة هذا المال وإنفاقه في وجوهه المشروعة, وحمايته من الاعتداء عليه أولوا الأمر من الذين يشرفون علي تحصيل هذا المال والانفاق منه, ولهم الكلمة النافذة والسلطان الغالب في التعامل مع هذا النوع من المال, ويعاونهم في وظيفتهم تلك جيوش جرارة من العمال والموظفين وغيرهم, والكل يتقاضي أجره من هذا المال العام. ومن الواجب علي من ولي أمرا من أمور الناس يمكنه من التصرف فيمال عام تحت يده أن يكون أمينا عليه, وأن يعتبر نفسه أجيرا عند الناس يتقاضي علي عمله عندهم أجرا معلوما, وألا يسمح لنفسه بأن تمتد يده إلي شيء من هذا المال تحقيقا لمنفعة شخصية أيا كان نوعها, وإلا كان غلولا يأتي به صاحبه يوم القيامة, وهو ما أشار إليه النبي صلي الله عليه وسلم في قوله: من استعملناه منكم علي عمل فكتمنا مخيطا فما فوقه كان غلولا يأتي به يوم القيامة. وقال رب العزة: ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة, ثم توفي كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون. وفي الحديث المتفق عليه من حديث أبي حميد عبد الرحمن بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: استعمل رسول الله صلي الله عليه وسلم رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية علي الصدقة, فلما قدم قال: هذا لكم, وهذا أهدي إلي, فقام رسول الله صلي الله عليه وسلم علي المنبر, فحمد الله وأثني عليه, ثم قال: أما بعد, فإني استعمل الرجل منكم علي العمل مما ولآني الله. فيأتي فيقول: هذا لكم, وهذا هدية أهديت إلي, أفلا جلس في بيت أبيه أو أمه حتي تأتيه هديته إن كان صادقا؟ والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه إلا لقي الله تعالي يحمله يوم القيامة.. إن الكثيرين منا إلا من رحم الله ليتعامل مع المال العام وكأنه ماله الخاص, فتراه يستخدم ما تحت يده من سيارات أو تليفونات أو خامات من أي نوع للاستفادة بها لنفسه, ومن الناس من يعلن عن مناقصات وهمية, أو اجتماعات ومؤتمرات لم تحدث علي أرض الواقع وأمور أخري كثيرة من هذا النوع وذلك كله ليحقق لنفسه أو لمن لهم به صلة دخلا لا يستحقونه, وهذا كله إهدار للمال العام سوف يحاسب عليه هؤلاء. ومن صور إهدار المال العام ما تتصرف بعض الحكومات من استنفاد ثروات يمكن أن تستفيد منها أجيال عديدة, كالثروة المعدنية, أو الثروة السمكية أو غير ذلك, فبدلا من أن يأخذ ما يحتاج اليه وينفقه علي النفع العام, إذا بالبعض يستنفد تلك الثروات بضراوة ويحرم منها أناسا آخرين لم يأتوا بعد, وسوف يحاسبونه ويخاصمونه, وهم ما رأوه ولا عاشوا في زمنه ولا زمن أولاده أو أحفاده. إن التعدي علي المال العام بمثل هذه الصور التي أشرنا إلي بعضها يفوق في إثمه وذنبه التعدي علي المال الخاص, فإن المتعدي علي المال العام يسرق الأمة بكاملها, وتعلق برقبته حقوق لكل فرد منها, فهلا وضع المرء نفسه في مثل هذا الموقف, وتأمل كيف يمكنه الخلاص بين يدي الله إذا أحاط به العباد من كل جانب يطالبونه بحقوقهم, ويخاصمونه بين يدي خالقهم؟. ولذا رأينا سلف الأمة الصالح رضوان الله عليهم يضربون لنا المثل في التعفف عن مال المسلمين, وكانوا بهذا قدوة صالحة وأسوة طيبة لرعيتهم ومن يعملون تحت أيديهم, ونضرب لذلك بعض الأمثلة. (أ) لما استولي سعد بن أبي وقاص علي كنوز كسري وذخائره وملابسه وجميع نفائس الملك التي ظل الأكاسرة يجمعونها قرونا من سائر انحاء العالم أرسل بها سعد كاملة إلي الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه, فلما رآها عمر قال: إن قوما أدوا هذا لأمناء. فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه: عففت فعفت الرعية, ولو رتعت لرتعوا. (ب) ومن أقوال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: شأني مع بيت مال المسلمين كشأن الوصي علي الأيتام, إن استغنيت استعففت, وإن احتجت أكلت بالمعروف. (ج) دخلت ذات يوم عمة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه تطلب زيادة علي راتبها من بيت مال المسلمين, وإذا به يأكل عدسا وبصلا, فلما كلمته في شأنها, قام عن طعامه وجاء بدراهم من فضة ووضعها علي النار, ثم وضعها في كيس, وقال لها: خذي هذه الزيادة. فما إن قبضت عليه حتي طرحته أرضا لاحتراق يدها من شدة الحرارة, وكاد أن يغشي عليها, وقال لها عمر رضي الله عنه: ياعمتاه, إذا كان هذا حالك مع نار الدنيا, فكيف بنا والآخرة؟ وما أنا إلا عبد استودعه الله علي خلق من خلقه, وخازن لبيت مال المسلمين أسئل عن كل درهم فيه يوم القيامة, فكيف يكون حالي في ذلك اليوم إذا أنا أعطيتك درهما واحدا علي باقي الرعية؟ إن الموظف في أي موقع كان أمين علي ما تحت يده؟ وقد أمرنا ربنا بأداء الأمانات فقال( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلي أهلها) وامتدح عباده المؤمنين بقوله( والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون). ويدخل في الأمانة حسن أداء العمل واستخدام الأدوات الخاصة به وفق ضوابط تمنع من استغلاله أو تبديده, وإعادة المنفعة المترتبة عليه علي كل أفراد الأمة, وتحقيق المصالح لها من رخاء وتقدم, وحمايتها من الفقر والجهل والمرض وسائر الموبقات. وزير الاوقاف