فى كتابها الموسوعى الأخير «عالم اليقين» تصحبك الأديبة الكبيرة والأستاذة الفاضلة سناء البيسى فى رحلة ممتعة تدخلك فيها صومعة الناسك وتمر بك فى تجارب الأئمة ورحلتهم الشاقة فى جمع الأحاديث الشريفة.. تستنطق الحدث وترسم الشخصيات بكل الألوان والظلال.. تجمع أشلاء السير المندثرة وتروى لك تجارب هؤلاء الرواد والأسلاف فى حكايات مصقولة تهدهد فيها الأحداث بقلمها الرشيق الذى اعتاد أن يحول رصاص المطابع إلى لؤلؤ منظوم.. فهى تحتفى دوما بالموروث الثقافى وبالكلمة المفردة وتتوجها ملكة فى قاموسها الزاخر فى هذا الكتاب الذى يكاد يكون مكتبة مستقلة فى تنوعه وثرائه وغزارة معلوماته. فهى تتنقل من السيرة النبوية العطرة وتكشف لك بأسلوب أدبى رفيع المخبوء منها الذى كتبه محمد حسين هيكل وتوفيق الحكيم وطه حسين إلى معلومات متنوعة تغذى فضول قارئها عن عدد الأنبياء الذى يبلغ 10024 نبيا والمرسلين وعددهم 315 مرسلا لهداية البشرية ولماذا لم يذكروا جميعا فى كتاب الله؟ ثم تطالعك بما ندر من أحداث زلزلت بنيان التاريخ.. عاشقة لكل التفاصيل التى ترتبط بمصر.. وكيف أن الخليفة عمر بن عبد العزيز ولد فى حلوان عام 61ه. ........................... وتخبرك بما لا تعلم عن الرسم المنقوش على جدران مقابر بنى حسن فى مركز قرقاص بالصعيد وهو يمثل زيارة أبى الأنبياء إبراهيم عليه السلام هو وأسرته إلى مصر ومن تلك الزيارة التاريخية النورانية تنتقل للسرد بأسلوب فريد يطمس كل الأشكال التقليدية للكتابة عن أنبياء الله الذين جاهد كل منهم فى طريق التعب والشقاء، رمى فيه الخليل فى النار وبيع يوسف بثمن بخس وفقد فيه أيوب ماله وأهله وصحته.. لكنه لم يفقد صبره.. بل إنه يتحرج أن يطلب إلى ربه رفع البلاء عنه.. حيث ورد ذكر الصبر أكثر من 90 مرة فى القرآن الكريم.. وصفة الحنان التى ارتبطت بيحيى عليه السلام وتجلى الله باسمه الحنان على عبده يحيى وهى كلمة لم ترد سوى مرة واحدة فى الكتاب الكريم «وحنانا من لدنا». «يا رب فى آياتك الكثيرة دعوة للتفكير.. خلقت لنا آلة.. فلم نستخدمها كثيرا، واكتفى أكثرنا بالتلقين دون تفكير واستخدام بعضنا التفكير داخل جدران التلقين.. لم نعمل بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: لا عبادة كتفكر.. وقوله فى موضع آخر: وهل ينفع القرآن إلا بالعلم». هذا مقطع من سردها الذى يكشف عن عقل رحب لا تحده أطر فكرية بعينها.. ولكنها تبحث عن طرف الخيط وتنتشله ببراعة من الخيوط المتشابكة وتفك العقدة المستحكمة.. لإمعان النظر وفتح الآفاق أمام التفكير العلمى الخلاق والفكر الممنهج.. فتكتب عن الإمام مالك الذى قيل عنه إنه وعاء العلم.. وتلقى علم الحديث عن أبى هرمز الذى أورثه قول (لا أدرى) ليجيب بها عما لا يعلم.. وقد قام بحفظ اثنى عشر ألف حديث برواياتها ولم يحدث طلابه إلا بنحو ربعها وهو الذى صح عنده وكان يقول: «أن أحدث الناس بكل ما سمعت فإنى إذن لأحمق وإنى إذن أريد أن أضللهم وقد خرجت منى أحاديث لوددت أنى ضربت بكل حديث منها سوطا ولم أحدث بها أحدا». لم ينقطع هذا الإمام الجليل عن طلب العلم وهو فى شيخوخة التسعين وتكشف لنا سناء البيسى استشهاداته عن العلم وكيف كان يرى أن العلم كله ثقيل مسترشدا بقوله تعالى: (سنلقى عليك قولا ثقيلا). الإمام مالك صاحب الموطأ كان يرى فى «عالم اليقين» أن الزهد والانقطاع قد يضر بسلامة المنهج النقلى ودقة الرواية.. لأن الزهد قد يلحق الراوى بشيء من الغفلة أو الانخداع.. فالحياة تحتاج إلى العلم وكل يعمل فى مجاله بل انه ليست هناك مفاضلة بين العبادة والعلم.. وهكذا تثير صفحات الكتاب الكثير من الأسئلة وفى كل طرح تحرص الكاتبة القديرة فى التحدث عن زمن الفكرة وكيف أن كل شيء يتغير مع الزمن فى صورته واستدلالاته.. فهى تترك الباب مفتوحا لإجابة قد تكون مرجأة لم تأت بعد.. فالكتاب دعوة لإمعان النظر بحثا عن النموذج والقدوة والرسالة.. فالإمام مالك الذى أسقط الكثير من الأحاديث كان يقال عنه: (لو عاش لأسقط علمه كله تحريا). سريعة البديهة.. حاضرة الذهن.. تقفز سريعا إلى الجوهر.. تطرق عصر الأئمة العظام (مالك والنعمان والشافعى وأبى حنيفة) فالشافعى أحرق قديمه ليشيد جديده وامتاز بفهمه العميق لروح الشريعة الإسلامية وحين قدم إلى مصر ورأى الإمام الليث بن سعد بدأ فى إعادة النظر فى معظم آرائه.. فى مصر «اتسعت رؤيته وتغذى الوجدان بالرأى والفكر والحضارة مع رفض التعصب». حذر هذا السفر الجليل أيضا من الإسرائيليات وهى سموم مطرزة بخيوط الخبث والدهاء دسها أعداء الإسلام على التفسير والحديث بسوء نية من أجل إخفاء الحقائق عن الناس أو تزويرها أو تلفيقا للنصوص المقدسة.. فالإسرائيليات كما رصدت سناء البيسى وقع فى روايتها معظم المفسرين وخطورتها تنبع من مهارة حكاياتها بصورة بها من المبالغة والتهويل ما يجعلها أساطير وخرافات وأباطيل تنتشر بين عامة الناس والدين منها براء وكان الغرض منها إلهاء الناس عن تدبر الآيات والانتفاع بها والبحث عن توافه الأمور والصغائر والتفاصيل التى تعد مضيعة للوقت وهو أمر يحتاج منا إلى الانتباه لأن بعض المفسرين امتلأت تفسيراتهم بها وهى ضلالات متربصة بالعقول يجب الحذر منها. الكتاب عامر بفصل متميز عن المفكرين منهم الشاعر الألمانى الشهير جوته صاحب «فاوست» ورواية «آلام فرتر» وكيف شغف بالمعلقات والشعر الجاهلى وأحب قصص العرب واقتبس أساليبهم فى التعبير ووصفهم بأنهم أمة شجاعة باسلة لا تهاب الموت.. بل الموت يهابها. وفى باب آخر، تذكرنا فيه بأن مصر تجود دائما بالكبار.. تتحدث عن الإمام محمد عبده الذى سبق الجغرافى الفذ جمال حمدان فى وصفه لمصر وطبائع أهلها فيقول: «أرض مصر ضيقة عن حاجة أهلها وهى محاطة بالصحارى الجدباء والمياه المالحة.. أهل مصر لا يعرفون معنى المهاجرة من دار إلى دار، لذلك كل قادم إليهم امتزج بهم وغلبت عليهم عوائدهم وأطوارهم.. طبائعهم مرنت على الاحتمال وألفت مقاومة القهر بالصبر.. طبائع المصريين كالكرة المرنة تتأثر بالضغط فينخفض سطحها قليلا ثم لا يلبث أن يعود إلى حاله.. أهل مصر قوم سريعو التقليد أذكياء الأذهان.. أقوياء الاستعداد للمدنية بأصل الفطرة». وأخيرا.. هذا كتاب يبحث عنه القارئ المتطلع للبحث عن الجذور التى من أجلها تدور أحيانا الحروب ومن منبتها تكتب الأشعار والملاحم.. الجذور هى اليقين، هى الأوطان، هى شرف الكلمة والذود عنها.. هى التشبث بكل الخصوصيات الثقافية والحضارية التى يكاد طوفان العولمة أن يقتلعها.. إنه عالم اليقين، عالم الإيمان بكل المقدسات وإعمال العقل والفكر الخلاق بريشة المبدعة سناء البيسى.