«لا يُفتي ومالك في المدينة».. مقولة نرددها علي جميع الجبهات لنغلق بها باب ترهات الحديث، وتخريجاته التآمرية، والالتواء به إلي سكك أخرى ما أنزل الله بها من سلطان.. إنها مقولة القول الفصل، والحكم القاطع، والفتوى التى ما بعدها فتوى تاريخاً وفقهاً وقانوناً يؤخذ به منذ القرن الثانى الهجرى، وما يقابله من الثامن الميلادى، حتى قوانين الأحوال الشخصية الأخيرة فى مصر عام 1979.. مالك.. الذى بلغ الذروة في هجاء المحرمات ليغدو في رفضه لها إماماً وفقيهاً يعبر عنه القول المأثور «قال فيه ما قاله مالك في الخمر».. مالك.. إمام دار الهجرة ومفتى المدينة وفقيهها الذى عاش عمره كله في رحابها لم يغادرها إلا حاجاً أو معتمرًا فلم يُعرف بحبه للسفر والارتحال كتلميذه الشافعى، بل كان مكتفياً بجوار الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، وآل بيته، وبقيع أطهاره، حيث كانت المدينة المباركة موطن الشرع ومبعث النور وريح النبوة وذكريات الهدى والوحى والبطولات والفرقان، ومقصد الحكم الإسلامى الأول، ومهد السنن وموطن الفتاوى المأثورة للرعيل الأول من علماء الصحابة ثم تلاميذهم من بعدهم حتى جاء مالك فوجد ذلك التراث الغنى بالعلم والحديث والفتاوى، فنمت مواهبه تحت ظلها، وجنى من ثمارها، وشدا بما تلقَّى من رجالها، ولازمه تقديسها إلى أن دفن فى بقيعها، وكان لمنزلتها أثر فى فكره وفقهه وحياته، فكان لا يطأ أديمها بدابة يركبها قط، ويقول الإمام الشافعى عن ذلك أنه رأى على باب مالك هدايا من خيل خرسانية وبغال مصرية، فقال الشافعى: ما أحسن هذه الأفراس والبغال.. فقال مالك: هى لك فخذها جميعاً.. فقال الشافعى: ألا تُبقي لك منها دابة تركبها؟! فقال مالك: إنى لأستحى من الله تعالي أن أطأ تربة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحافر دابة.. كانت المدينة في زمن مالك مقصدًا لوفود الحجيج من شتي البلاد فوجد فى أحوالهم المادة التي تغذى فقهه وتمده بالعلم الغزير، ويعرف منها ما يصلح للناس، وما يستقيم مع معاملاتهم، إلى جانب أن الحياة في المدينة كانت تناسب طبيعة مالك، فقد ظلت بعيدة عن التيارات الفكرية التى تصطخب فى غيرها من مدن المسلمين، وهو رجل يُحب الدعة، ويُنشد السكينة، ويعكف على الدرس المطمئن كارهاً الجدل والصخب والمناظرة والكلام فيما لا ينفع الناس حتى ليقول: «إن الجدل يبعد المتجادلين عن حقيقة الدين»، ولقد بلغ نفوره من الجدل حدًا جعله يصد عنه هارون الرشيد عندما لقيه في المدينة طالباً منه مناظرة أبا يوسف صاحب أبى حنيفة فقال مالك غاضباً: «إن العلم ليس كالتحريش بين البهائم والديكة»... مالك.. الذى قال عنه تلميذه الإمام الشافعى: «حُجة الله على خلقه»، وفي قول الإمام ابن حنبل: «مالك سيد من سادات أهل العلم وهو الإمام فى الحديث والفقه»، وقال الليث بن سعد إمام أهل مصر: «مالك وعاء علم». مالك بن أنس بن مالك أبو عامر الأصبحى، وأمه عالية بنت شريك الأزدية، والجد أبى عامر وكنيته «أبو أنس» كان قد قدم بأسرته من اليمن مهاجرًا متظلمًا إلى الحجاز مما لحقه من ظلم والى اليمن، فلما طاب له المقام تزوج واستقر في بنى تميم ليغدو مع الأيام مع كبار التابعين، وشهد جميع الغزوات ماعدا بدرًا، وأصبح من رواة الحديث فقد روى عن عمر وطلحة وعائشة وأبى هريرة وحسان بن ثابت رضى الله عنهم، وشارك في كتابة المصاحف في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان وكان أحد أربعة حملوا جثمان عثمان ليلا إلى قبره.. وفي عام 93ه يستقبل الجد «مالك» حفيده «مالك» المسمى على اسمه، حيث ولد إمامنا في مكان يُعرف ب«ذى المروة» على بُعد 192 كيلومترا شمال المدينةالمنورة يشبه الواحة الغنّاء بالعيون والمزارع والبساتين لتدور حول ميلاده رواية أشبه بالأساطير تميّزه عن غيره من المواليد، فليس الإمام كمن تنجبهم الأرحام كل ساعة وكل يوم كما جاء في كتب المناقب والسير، وذلك أن أمه عالية ظلت تحمله لثلاث سنوات كاملة ليتم نضوجه على أقل من مهل ليكون أهلا بعدها لاستقبال مهمته الثقيلة في الحياة، وقد عزز مالك بنفسه ذلك الزعم المرفوض علمياً بقوله: «قد يكون الحمل ثلاث سنوات».. وأتى المولود كما جاء في وصفه «أشقر واسع العينين عظيم الرأس كبير الأذنين، لم يُر بياض ولا بهاء ولا حمرة أحسن من وجهه».. ومن جمال خِلقته ورهافة حسه حمل طويلا وحده من بين الأشقاء والشقيقات لقب الملاطفة والتدليل فكان يدعى «مويلكا»، وكثيرًا ما زجره والده أنس المقعد الذى لا يبارح جلسته في فتل الحبال كمورد للرزق، لأن مالك كان مولعاً باللهو مع الطيور، ولقد روى علي لسانه فيما بعد أن أباه سأله يوماً في مسألة فأخطأ فيها فزجره قائلا: «ألهتك الحمام» ومثلما يعيد التاريخ نفسه فلقد شكا الإمام مالك فيما بعد من ابنه «يحيى» الذى يدخل ويخرج عليه هو وتلامذته وعلي يده باشق صقر وقد أرخى سراويله ولا يجلس معه ليتعلم شيئا وكان لمالك أخ اسمه «النضر» يكبره عمرًا ويلازم العلماء ويتلقي العلم عليهم، ولقد أفاد مالك منه الكثير في نشأته، ولشهرة هذا الأخ دونه وقتها كان الناس يعرفون مالكاً بأنه أخو النضر، فلما ذاع صيته بين شيوخه صاروا يعرفون النضر بأنه أخو مالك.. وكانت أجواء المدينة في زمن طفولة مالك تصدح بالألحان والغناء مما ترك أثره في وجدان الطفل وحسه الفني الرفيع، حتى واتته الرغبة الملحّة في الغناء ليفصح عن هذا التوجه بلسانه في زمن كهولته قائلا: «نشأت وأنا غلام فأعجبنى الأخذ عن المغنين، فقالت لى أمى يا بنى إن المغنى إذا كان قبيح الوجه لم يُلتفت إلى غنائه، فدع الغناء واطلب الفقه، فتركت المغنين وتبعت الفقهاء فبلغ الله بى إلى ما يُرى»، ولابد وأن الأم أغمضت عينيها عن الوجه الجميل لتصفه من وراء قلبها بالقبح بغرض أن يتجه الابن إلى علوم الدين بدلا من الغناء، لكن الأيام تترى ويأتى أبو العلاء المعرى يوماً ليذكر فى «رسالة الغفران» أن عمر بن عبدالعزيز، ومالك بن أنس، يُذكران فى طبقات المغنين، فبيئة المدينة يتعانق فيها الفن والدين عناقاً حارًا، والكثير من مترجمى سيرة الإمام مالك تجد في ترجماتهم ما يأتى على ذكر ما كان يهفو إليه صاحب الحس الرقيق إلى الغناء، ويروى أنه مرَّ يوماً مع ابن أخته «ابن أبى أويس» فإذا مولاة تحمل جرة ماء وتشدو: ليتنى أرض لسلمى فتطانى قدماها ليتنى درع لسلمى ترتدينى من وراها ليتنى خادم سلمى قاعد حيث أراها فيسأل مالك عنها ليعرف أنها «غزال» جارية بنى عمارة فيقرظ أداءها بقوله: إنها لفصيحة اللهجة حسنة الأداء.. و..في حين ينكر مالك في كتابه «الموطأ» أمورًا كثيرة ومنها الصور فإنه لم يذكر قولا واحدا عن الغناء. طرق مالك أولى خطوات معترك الإمامة بعدما هيّأته الأم بلباس العلم ووضعت قلنسوة طويلة علي رأسه وعلقت في أعلى أذنه الشنف الحلق من مكملات أناقة الطفولة وقتها، وقالت له اذهب فاكتب الآن.. وذهب مالك إلى ٬مهبط جبريل، إلى جوار محمد، إلى الروضة الشريفة بين القبر والمنبر، حيث غدا وراح صاحب الدعوة والدولة والدين.. حيث مرقده هو وخاصته.. حيث مشرق النور، ومبعث الرسالة ومشهد الأحداث، ونفحة الأرض من السماء.. في مكان بمثابة قطعة من الجنة أمضى الطالب مالك كل سنى تعلمه ثم تعليمه أيضًا، حيث تلقي علم الحديث عن «ابن هرمز» الذى لازمه ثمانى سنوات والذى أورثه قول «لا أدرى» ليجيب بها عما لا يعلم، ويتجه مالك في طلب مزيد من العلم من ينابيع أخرى حيث يجد في «نافع ولى ابن عمر» بغيته فيأخذ منه علماً كثيرًا يقول عنه: «كنت آتى نافعاً نصف النهار وما تظللنى شجرة من الشمس لأتحين خروجه، فإذا ما خرج أدعه ساعة كأنى لم أره، ثم أتعرض له فأسلم عليه وأدعه حتى إذا دخل أقول له: كيف قال ابن عمر فى كذا وكذا فيجيبنى ثم أحبس عنه، وكان فيه حدّة» ويحدد مالك شيوخه ما بين: ابن هرمز، وأبو الزناد، ويحيى بن سعيد الأنصارى، وربيعة التي كانت تحرضه أمه علي الجلوس إليه، وابن شهاب الذى نوَّه عن علاقته به بالمديح العذب «بحر العلم ابن شهاب»، ولم يدخر فى طلبه للعلم مالا فقد قام بهدم سقف بيته وباع خشبه ليتمكن من عائد ثمنه بمواصلة العلم، وعاش زمناً في بيت بلا سقف حتى حفظ اثنى عشر ألف حديث برواياتها، حيث لم يحدِّث طلابه إلا بنحو ربعها، فهي التى صحَّت عنده، وقيل له يوماً: «عند أبى عيينة أحاديث ليس عندك. فرد باستنكار: «أن أحدِّث الناس بكل ما سمعت، فإنى إذن لأحمق، وإنى إذن أريد أن أضللهم، وقد خرجت منى أحاديث لوددت أنى ضربت بكل حديث منها سوطاً ولم أحدث بها أحدًا».. وعندما ذهب أحدهم ليسأله قائلا إنها مسألة خفيفة، أجابه مالك غاضبا مستنكرا: «ليس فى العلم شىء خفيف، أما سمعت قوله تعالى: (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) إن العلم كله ثقيل»، وكان الإمام مالك يأبى الاعتراض مثل أبى حنيفة لأحكام القضاة فيفتح للناس باب الطعن في الأحكام بالحق وبالباطل، ويؤثر أن يقصر قوله على الفتوى إن سُئل من طالب الفتوى.. وقد شهد له سبعون شيخاً من شيوخ العلم بالمدينة بأنه أهل للفتوى، فكان له مجلسان أحدهما في المسجد النبوى الشريف، المكان الذى كان يجلس فيه عمر بن الخطاب للشورى والقضاء، وهو مكان جلوس الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه.. وكان هناك مجلسه الآخر في مسكنه بدار عبدالله بن مسعود، إلا أنه في سنوات عمره الأخيرة حيث قارب التسعين لزم مجلس بيته لحرجه من مرضه الذى لم يبح به إلا لأقرب الناس في لحظات الوداع الأخير عندما قال: «لولا أنى في آخر يوم ما أخبرتكم عن حقيقة مرضى سلس البول ولقد كرهت أن أذكر علتى فليس كل الناس بقادر أن يتكلم بعذره».. ولد مالك في عهد الوليد بن عبدالملك الأموى وتوفى فى عهد الرشيد العباسى، وبذلك أدرك الدولة العباسية وهى تتشكل في رحم الكتمان والتخفى، وأدركها وهى تطيح بالدولة الأموية وتجلس علي أريكتها، وشاهد الحضارة العباسية وقد امتزجت فيها الحضارات المختلفة ما بين فارسية وهندية وعربية لتهضمها المبادئ الإسلامية.. ولقد شطرت السياسة حياة مالك لشطرين كادا يتساويان، وذلك عندما عاش نحو أربعين عاما فى العصر الأموى الذى كَوَّن نفسه فيه، و46 عاما في العصر العباسى الذى كوّن فيه تلامذته، لكنه علي مدى حياه حتى بلوغه الشيخوخة لم ينقطع عن طلب المزيد من العلم، والبعد عن السياسة، والاستقرار في موقع البين بين الحيادى، ولكنه في مجمل رأيه كان متفقاً مع الأمويين، «وعندما سأله أحد العلويين في مجلس درسه: من خير الناس بعد رسول الله؟ قال: أبوبكر.. ثم من؟ قال مالك: ثم عمر.. ثم من؟ قال مالك: الخليفة المقتول ظلماً عثمان، فقال العلوى: والله لا أجالسك أبدًا.. قال مالك: الخيار لك».. ولقد لاحظ بعض المعاصرين له أنه لم يرو أحاديث كثيرة عن علىّ وابن عباس حتى اتهم بأن الدافع لذلك نزعة أموية، وعندما سُئل عن ذلك على لسان هارون الرشيد ذاته أجاب مالك بأنه لم يلق أصحابهما ولم يتلق عنهما، ويستنكر مالك سبَّ أصحاب رسول الله، واعتبر ذلك جُرماًَ كبيرًا، وقال إنه إن ساد في مدينة سبُّ أصحاب النبى وجب الخروج منها كالإقامة في بلد لا يُعمل فيه بالحق، ويسأله الرشيد: هل لمن يسب أصحاب رسول الله في الفىء حق؟ أجابه مالك: ولا كرامة، فيعود الرشيد ليسأله: من أين قلت ذلك؟ قال: «قال الله تعالى (ليغيظ بهم الكفار)».. «الفتح» فمن عابهم فهو كافر.. ويحسب لمالك أنه لما استقرت الأمور بعد أن قضى أبوجعفر المنصور على الخوارج العلويين عليه رضي مالك بعد سخطه وصار موقفه من العباسيين كموقفه من الأمويين يرضي بسلطانهم لأن فيه منعاً للفوضى وحفظا للأمن، وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإن نزلت بمالك في عهد المنصور محنة شديدة وذلك في عام 146ه حيث ضُرب بالسياط ومُدَّت يداه حتى انخلعت كتفاه وذلك لأنه كان يحدث الناس بحديث «ليس لمستكره طلاق»، فقد وجد المغرضون في الحديث تورية يقصد بها مالك بأنه ليس بمستكره بيعة، ولذلك فلا بيعة للمنصور، وكان مالك مظلوماً ولم يتجاوز في قوله حد الإفتاء في موضوع طلاق المكره.. ويذهب المنصوروالمهدى والرشيد إلى الحج فيكون من شدة عنايتهم بالعلم والعلماء والدين وحامليه أن يلتقوا بهم وأن يختصوا مالكاً باللقاء والاعتذار ووضعه فى صدارة مجالسهم، حيث كان يكره الجلوس حيث ينتهى به المجلس فيكون مؤخرا، فهو يدخل ليسأل الخليفة الجالس هناك على الفور: أين يجلس مالك؟ فيجيبه الخليفة: «إلىّ إلىّ يا أبا عبدالله، فيتخطى مالك الناس حتى يصل إليه فيرفع مجلسه بجواره، ولقد وجد مالك في بنى العباس السامعين لنصائحه، المسترشدين بمواعظه ما شجعه على دوام الاتصال بهم وقبول هداياهم غير باحث عن مصدرها.. وكان من عطايا الخلفاء له عشرين ألف دينار من المنصور آلمشهور بالشح وتذكر الروايات العديد من الجوائز التى تبلغ بضعة آلاف من الدنانير كما ذكر العالم الأوزاعى تكفي للإنفاق على حياة رغدة وقدرة شرائية عالية، إلى جانب مائة دينار سنويا من الفقيه الليث بن سعد، مع مورد دائم من تجارة قوامها 400 درهم، وإذا ما كان مالك قد باع سقف بيته يوماً لفقره، فقد كفته جوائز الخلفاء الذين اقتنعوا برأيه في أن أهل العلم يجب ألا ينشغلوا فى طلب الرزق، بل يجب أن يكون لهم نصيب من بيت المال، فينالوا منه رواتب منتظمة كبيرة كما ينال قادة الجيش الذى يقومون على حماية الأمة وسد الثغور، فنشر العلم سد للثغور الروحية أمام الجهل، والتوفر علي نشر العلم جهاد، ويجب أن يكون للعالم وطالب العلم جزاء المجاهدين.. ومن هنا عاش مالك منعماً فى دار مجهزة بأفخر الأثاث، تعطرها أجواء المسك والبخور، وسائدها في كل مكان من ريش النعام، ومضاجعها الحريرية يمنة ويسرة للاتكاء، والبُسُط ممدودة حتى بلغ ثمن تلك المنقولات عندما بيعت يوم وفاته أكثر من خمسمائة دينار، وفي رواية عن بيته فى دار الصحابى المعروف «عبدالله بن مسعود» أنه كانت في البيت صورة وهو الذي أفتى «لا ينبغى أن تكون صورة فى البيت» وهنا سأله عراقى: يا أبا عبدالله هو ذا في بيتك صورة؟!» فقال: أنا ساكن فيه من زمن طويل ما رأيتها فأزلها إذا ما أردت». ولم تكن الأناقة والرفاهية عنوانا لبيت مالك فقط، وإنما رقة المزاج ورهافة الحس كانت تبدو جليّة في جميع ممارسات الحياة من حوله، وشواهد ذلك فى مطعمه ومشربه ومظهره، وكان يقول دائما «ما أحب لأحد أنعم الله عليه إلا أن يُرى أثر نعمته عليه، خاصة أهل العلم الذين ينبغي لهم أن يظهروا في أفضل صورة إجلالا للعلم» وهو في ذلك يمارس مقولة عمر بن الخطاب التى رواها مالك نفسه في الموطأ: «إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا».. وإذا ما كان المتزهدة الصوفيون يرون أن الفقه والتحديث يخل بالزهد ويُعتبر من طلب الدنيا، فإن مالكاً يلقاهم بالرأى المقابل فيقرر أن الزهد والصلاح والانقطاع قد يضر بسلامة المنهج النقلي ودفَّة الرواية، لأن هؤلاء الصالحين يُخدعون ولا يتثبتون، أو يلحقهم شىء من غفلة، والاشتغال بالعلم ليس أقل مما يشتغل به هؤلاء القوم، ويرى أن الحياة تحتاج إلى العلم كاحتياجها إلى الخُلُق، وكل يعمل في مجاله، وليس هناك مفاضلة بين العبادة والعلم، وبهذا الأسلوب فى ممارسة الحياة يُفهم اتساق شخصية الإمام مالك في لباسه وزينته، وأثاث بيته، وأناقة تناوله، فيُرى وعليه طيلسان يساوى خمسمائة درهم وقد رفع جناحاه علي عينيه أشبه بالملوك، كما شُوهد وعليه رداء عدنى اشتراه بخمسمائه أخرى، وهو يلبس ثياباً خرسانية ومصرية وعدنية، وعن الصوف الغليظ يقول إن لا خير فيه إلا على سفر، كذلك ارتدى مالك العباءة من قطعة حريرية واحدة مصبوغة باللون الوردى، واشتهى يوماً ثياباً قرمزية حتى صار لديه منها سبعة، ويكتب لصديقه الليث بن سعد في قليل من عصفر لصباغة ثياب الصغار والجيران فأرسله له، ليبقى منه بعد استخدامه ما ثمنه ألف دينار، وعلي ذكر الألوان فقد كان الأبيض لون الإمام المفضل حتى أنه لم يصبغ شيبته يوماً، فكان أبيض الرأس واللحية، وقد توفي وفى يده خاتم من فضّة فصُّه حجر أسود منقوش عليه «حسبى الله ونعم الوكيل» يضعه في يده اليسرى، فإذا توضأ حوله إلى اليمنى، ولم يره أحد من أقاربه ولا من أصدقائه إلا معمماً، وكان شديد التشبه بعمر يفتل طرف شاربه مثله، ويتخذ مجلسه مكانه في المسجد النبوي، وفي طعامه يصيب الطيب من الطعام والشراب، ويحرص علي أكل اللحم يومياً بما قيمته درهمان، وكان في بيته طباخ طال به المقام، وكانت أخته فاطمة تهيئ له في إفطاره خبزا وزيتا، حيث لا يمنع زهد الإفطار من الغداء باللحم وغيره من لحوم الطيور، ويروى عن مالك حبه لفاكهة الموز الذى يقول عنه: «إنك لا تطلبه فى شتاء ولا صيف إلا وجدته، فليس شىء أشبه بثمر الجنة منه وهو لا يمسه ذباب».. ومن أوضح مظاهر ميل مالك إلى مظهر الأبهة والوقار قوله: «ينبغى للعالم ألا يتولى شراء حوائجه من السوق بنفسه وإن كان من وقع ذلك نقص في ماله، فإن العامة عندها لا يعرفون قدره»، وقوله «حق على طالب العلم أن يكون فيه وقار وسكينة»، ومن عاداته أن يضع في كمه منديلا مطويا على أربع طاقات ليسجد عليه، ويسألونه عنه فيقول: «أضعه لئلا يؤثر الحصى بجبهتى فيظن الناس أنى أقوم الليل»، وكان هناك منديل آخر يحمله تابعه لينفض به الغبار عن الحذاء، ويبدو أن رقة المزاج تدنو بصاحبها إلى حدة المزاج أو سرعة الغضب والشدة فى إقامة حدود الله، وكان يكره كثرة الكلام قائلا: «كثرة الكلام تمج العالم وتذله وتنقصه»، ويذكرون مع قلة كلام مالك قلة الضحك أيضاً، وحول شدته في مجلسه قالوا عنه: يأبى الجواب، فلا يراجع هيبته.. والسائلون نواكس الأذقان أدب الوقار، وعز سلطان التقى.. فهو المهيب وليس ذا سلطان ويبلغ مالك من المهابة قدرًا لم يبلغه عالم غيره حتى وهو لم يزل أسود الرأس واللحية فقد كان الناس من حوله في سكوت لا يتكلم أحد هيبة له، وقد وصل صيته إلى مقر الخلافة في بغداد ليغدو على رأس أصحاب الفتوى حتى أن الرشيد أمر واليه على المدينة في عام 173ه ألا يقطع أمرا دون مالك، وبلغ به التمكن أن يغدو الرقيب على الوالى بأمر الخليفة المنصور حتى كان يأمره بضرب هذا وصلب ذاك، وبعدما ازدحمت الوفود على بابه خاصة في مواسم الحج صار له حاجب كالملوك، وحراسة خاصة من تلامذته ومريديه، وقد استنكر مرة علي الرشيد وجود الشطرنج فرماه هارون بقدمه، ونهى المنصور عن رفع صوته في مسجد الرسول، وأبى في مجلس المهدى أن يشرب في كوز له حلقة من فضة، فأمر المهدى بنزعها، وأنكر علي والى المدينة بدعة الخروج إلى صلاة العيد في سلاح ورايات فأيطل البدعة، وأفتي بأن «كل ما فى يد أمير المؤمنين ليس له»، وكان عندما يكون درسه في الحديث النبوى يتوضأ قبلها ويرتدى الجديد ويضع علي رأسه «ساجة» كالملوك، وكان يمنع تلامذته من كتابة فتاويه قائلا: «لا تكتبها فإنى لا أدرى أأثبت عليها غدا أم لا».. ولأن الخلاف بين الفقهاء كان قد اتسعت آفاقه ولم يعد رحمة ولا منجاة كما يُقال قام الكاتب عبدالله بن المقفع بتفجير المشكلة في كتيب صغير عنوانه «رسالة الصحابة» مطالبا المنصور بجمع السَّنة واختيار سبيل الوسط بين الفقهاء، فطلب المنصور من الإمام ذلك الكتاب ليكون قانوناً تطبقه الدولة بدلا من ترك الأمر لخلافات المجتهدين والقضاة والفقهاء، وعندما قال مالك: «إن أهل العراق لا يرضون علمنا» رد المنصور: «يضرب علي عامتهم بالسيف وتقطع ظهورهم بالسياط»، ولبث مالك يجمع المادة سنين عددا، وخرج بكتابه الموطأ بعدما رحل المنصور، وهو أول مصنف كامل فى الفقه والحديث، يتضح فيه اختلاط الحديث بالفقه، وهو ما كان سائدا في منتصف القرن الثانى الهجرى، وعندما تولى هارون الرشيد أراد أن يعلق الموطأ فى الكعبة، لكن الإمام مالك أبى قائلا بأن أصحاب الرسول قد اختلفوا في الفروع فافترقوا في البلدان، وكل عند نفسه مصيب.. وكان قد وضع الموطأ عن نحو عشرة آلاف حديث فلم يزل ينظر فيه كل سنة ويسقط منه حتى بقي كما هو الآن، ولو بقي قليلا لأسقطه كله، أو لو عاش لأسقط علمه كله تحرياً، فهو على هذا يتحرى بعدما يروى، ويعود إلى هذا التحرى بعد الأداء والتدوين، وكان مالك بعد تصنيفه لكتابه «الموطأ» قد رفض أن يجمع الناس عليه، وترك لهم الحرية فى الاختيار، ولم يرض أن يجعل للسياسة دخلا في كتابه فأقبل عليه الناس باختيارهم ليقول عنه الإمام الشافعى «ما ظهر على الأرض كتاب بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك».. وكانت فاطمة ابنة مالك تحفظ محتوى الموطأ عن ظهر قلب وتراقب قراءته من وراء الباب، فإذا ما أخطأ القارئ نقرت الباب.. ومن أمثلة ما حفظته في كتاب الصيام ضمن واحد وستين بابا فى «الموطأ» عندما جاء عن مالك عن عبدالله بن عمر ليسأل: «هل يصوم أحد عن أحد أو يصلي أحد عن أحد؟ فيقول: لا يصوم أحد عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد».. وعن مالك عن أنس بن مالك أنه قال: «سافرنا مع رسول الله في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم».. وعن مالك عن زيد بن أسلم أن عبدالله بن عباس سئل عن القُبلة للصائم؟ فأرخص فيها للشيخ، وكرهها للشاب..