فى وداع ورصد عام 2018 وصف مؤرخون هذا العام باعتباره نموذجاً عن سوء الإدارة فى عدد البلدان البائسة التى حكمها أسوأ قادة فى الذاكرة الحديثة، واستشهدوا على ذلك بالزعامات الشعبوية التى ظهرت فى أمريكا الشمالية، وأمريكا اللاتينية، وعدد من البلدان الأوروبية حيث شهدت بلدانهم انقسامات سياسية واقتصادية واجتماعية. ....................... هذا الواقع يثير قضية افتقار العالم إلى نموذج «رجل الدولة» الذى يمتلك الرؤية والبصيرة لقيادة بلده. ولعل من أهم من تصدوا لخصائص رجل الدولة هو المفكر الاستراتيجى الأمريكى ورجل الدولة هنرى كيسنجر، حيث اعتبر أن رجل الدولة الحق هو الذى يتصرف وكأن أمته خالدة، وباعتبار أنه لن يحصل أبدا على اليقين فإن عليه أن يحدق دائما فى الظلام، وعليه أن يختار أدوات تكتيكاته التى تستخلص السياسة من قبضة الماضى، وعليه أن يعيد تنظيم، لا أن يقبل، الواقع، وقد كتب فى مذكراته «أن مسئولية رجل الدولة أن يحل المعضلات لا أن يتأملها». ويعتبر كينسجر أن أعدى أعداء رجل الدولة هو البيروقراطية والبيروقراطيون ولهذا فهو يهاجمها بعنف، فعنده أنه بسبب طبيعة البيروقراطية والأسلوب والتفكير الذى يمارس به البيروقراطيون عملهم، فإنهم لا يستطيعون أن يستوعبوا التيارات العريضة للسياسة الدولية، فرغبتهم فى أن يتأكدوا من كل شىء وتأجيلهم اتخاذ القرارات حتى «تتوافر كل الحقائق» الأمر الذى مع اندفاع الأحداث سوف يحرم صانع القرار من أفضل اختياراته. وعنده أن البيروقراطيين يجمعون الحقائق، أما رجل الدولة فإنه يصنع الاختيارات، وهو مثل واحد من أبطال الدراما الكلاسيكية الذين لديهم رؤية للمستقبل ولكنهم لا يستطيعون نقلها مباشرة إلى مواطنيه ولا يستطيع أن يثبت صدقها. إن الأمم تتعلم فقط من خلال التجربة، ولكنهم «يعلمون فقط حين يكون الوقت متأخرا جداً لكى يتصرفوا. ولكن رجل الدولة عليه أن يتصرف وكأن الحدث هو بالفعل تجربة. وكأن أمانيه حقيقة». ولهذا السبب، فإن رجل الدولة يجب أن يكون معلماً. وأن يعتبر الفجوة بين خبرة وتجربة شعبه وبين رؤياه هو، بين تقاليد شعبه وبين مستقبله. وقد ميز كيسنجر بين «رجل الدولة» وبين «النبى» فالنبى يتبع العدالة المطلقة والعالمية وهو يرفض أن يساوم. وهو يتحدث لا عما هو ممكن، ولكن ما هو صواب. أما رجل الدولة فهو على النقيض، يدرك الحدود البشرية، والوجود الدائم للمخاطر. وهو ينشد خلق الإجراءات الوقائية إذا ما فشلت السياسات. وهو يناضل من أجل الاستقرار. والاستمرار والدوام والحلول النسبية. ويعدد كيسنجر، القيود التى تؤثر على رجل الدولة: خبراته الشخصية من خلال صعوده إلى السلطة، الأيديولوجيات والرؤى الخاصة للعدالة لدى قوى أخرى، والجغرافيا والتاريخ، والهيكل الداخلى فى بلده. وقد كتب يقول «إن المعتقدات التى كونها القادة قبل أن يصلوا إلى السلطة هى رأس المال الثقافى الذى سيستهلكونه طالما ظلوا فى مناصبهم». وفى بحثه عن العوامل التى تؤثر وتعيق حرفة رجل الدولة، اعتبر كيسنجر أن الاختلافات الأيديولوجية تسهم فى ذلك، فالقادة الذين يخلصون لأيديولوجيات متصارعة لن يتمكنوا من إقناع بعضهم البعض، بالإضافة إلى ذلك فإن الصراعات الأيديولوجية تشجع التدخل لأن رجال الدولة يصبحون مهتمين ليس فقط بالسياسة الخاصة لجيرانهم، ولكن أيضا بشئونهم الداخلية ومن هنا كان تفضيل كيسنجر لعصر مترنيخ حين كان رجال الدولة «يفهمون بعضهم البعض، ليس فقط لأنهم يستطيعون التناقش بسهولة بالفرنسية، ولكن بالمعنى الأعمق كانوا على وعى بأن الأشياء التى يشتركون فيها هى أكثر أهمية من تلك التى يختلفون حولها. وبدون مثل هذه البيئة المواتية لم تكن دبلوماسية مترنيخ ستصادف مثل هذا النجاح فى ضوء هذا ما الذى سيقوله التاريخ عن عهد عبدالفتاح السيسى فى مصر؟، نستطيع أن نقول بكل تجرد إن المؤرخين الموضوعيين الذين سيتعرضون له سيخلصون إلى أنه، مع بعض التحفظات، يقدم نموذجا لرجل الدولة الذى رفع أمته من حافة الانهيار إلى آفاق التقدم، وسبقت رؤيته رؤية أمته.