نجاح الأحزاب فى مرحلة الانتخابات الأولى تطور إيجابى نتمنى لو يتواصل فى جولة الانتخابات الثانية. خرج حزبا «المصريين الأحرار» و«مستقبل وطن» من مرحلة الانتخابات الأولى، وهما يحتلان المكانة المتقدمة بين الأحزاب المتنافسة بفارق كبير عن باقى الأحزاب. فاز المصريون الأحرار بثلاثة وثلاثين بالمائة من إجمالى المقاعد التى حصدتها الأحزاب فى المرحلة الانتخابية الأولى، فيما فاز «مستقبل وطن» بعشرين بالمائة منها. نواب الأحزاب -مع هذا- يمثلون الأقلية فى مجلس نواب الأغلبية فيه للنواب المستقلين، لكن النواب المنظمين فى أحزاب لها أفكار وتصورات محددة سيكون لهم أثر على البرلمان المقبل يزيد كثيراً على نسبة تمثيلها داخل البرلمان. حياتنا السياسية تعانى فقراً مؤسسياً يبرر الترحيب والاحتفاء بالأحزاب الصاعدة علها تساهم فى ملء هذا الفراغ، للأحزاب الصاعدة أوجه نقص غير خافية، لكنّ كثيراً من الانتقادات الموجهة لها لا يقوم على أساس موضوعى، فيما بعضها الآخر لا يهدف سوى إلى وأد الأحزاب الناشئة فى مهدها. النقاد يتهمون الأحزاب الناشئة بغياب الأيديولوجيات الواضحة عنها. عدد الأحزاب فى الدول الديمقراطية كبير جداً، فيما عدد الأيديولوجيات التى نعرفها لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة. الأحزاب المنتخبة فى البرلمان الفرنسى يبلغ عددها تسعة أحزاب بالإضافة إلى العشرات من الأحزاب الممثلة فى مجالس الأقاليم. الدانمارك فيها عشرة أحزاب ممثلة فى البرلمان الوطنى، وعشرة أحزاب أخرى ممثلة فى المجالس الإقليمية، والعديد من الأحزاب غير الممثلة فى أى مؤسسة منتخبة. فى البرلمان الإيطالى تسعة أحزاب لها ممثلون فى البرلمان، بالإضافة إلى 28 حزباً آخر منتخبة فى المحليات. برلمان النرويج فيه ثمانية أحزاب بالإضافة إلى 18 حزباً آخر ممثلة فى المجالس المحلية. البرلمان الإسبانى فيه 16 حزباً بالإضافة إلى أحزاب عديدة يصعب حصر عددها منتخبة فى مجالس الأقاليم. السياسة والأحزاب السياسية ظواهر معقدة يصعب حصرها فى نموذج واحد فقط تتطابق فيه الأحزاب والأيديولوجيات. التاريخ السياسى لديمقراطيات عريقة يشير إلى أن البرلمانات المنتخبة سبقت ظهور الأحزاب والأيديولوجيات بوقت طويل، وهكذا هو الحال فى البلاد الناطقة بالإنجليزية، مثل: بريطانيا والولايات المتحدة وأستراليا وكندا. الأحزاب الأيديولوجية ليست ظاهرة شاملة معروفة فى كل البلاد، ولكنها ظاهرة مرتبطة بالأساس بالبلاد التى شهدت صراعات اجتماعية وسياسية حادة فى فترات تأسيسية من تاريخها الحديث مثل ألمانيا. الادعاء بضرورة التلازم بين الأحزاب والأيديولوجيات هو كلام متهافت لا يوجد له أساس فى الواقع. أصحاب هذا النقد هم أصحاب الأيديولوجيات العتاة الذين يختزلون السياسة فى الأيديولوجيا. ما لا يلاحظه هؤلاء هو تراجع دور الأيديولوجيات فى عصرنا الراهن، فيما السياسة والصراع السياسى ما زالا متواصلين. التمايزات الفكرية والسياسية بين الأحزاب فى عالم اليوم لم تعد بالوضوح الذى كانت عليه فى زمن مضى. ائتلاف الحزب الاشتراكى الديمقراطى الألمانى مع الحزب الديمقراطى المسيحى لتشكيل حكومة أنجيلا ميركل الحالية يؤكد غياب التمايزات الأيديولوجية الحادة بينهما. الاختلافات بين حزبى العمال والمحافظين فى بريطانيا كادت تختفى لعقود طويلة حتى تم انتخاب اليسارى المتشدد جيرمى كوربن لرئاسة الحزب قبل أسابيع، وهو نفس التطور الذى يجعل المراقبين يتوقعون لحزب العمال فشلاً ذريعاً فى الانتخابات البريطانية المقبلة. أحزاب القرن الواحد والعشرين هى أحزاب سياسات أكثر منها أحزاب أيديولوجيات. الناخبون فى عالم اليوم لم يعودوا يبحثون عن رؤى أيديولوجية شاملة ومبسطة تلخص لهم العالم بقدر ما باتوا يبحثون عن سياسات فعالة تحسن ظروف حياتهم. دعم الدولة والجيش فى بلادنا هو اختيار سياسى وإن لم يعكس أيديولوجيا محددة. المطالبة بإصلاح البيروقراطية المصرية للحد من تغوّلها وفسادها هو اختيار سياسى ليس له سوى أبعاد أيديولوجية غائمة. لا أحد فى مصر إلا ويطالب بإصلاح نظم التعليم والرعاية الصحية دون أن يهتم بالمغزى الأيديولوجى لهذا الجيش. والجهاز الإدارى والتعليم والصحة هى القضايا السياسية الأهم فى مصر، وكلها قضايا يصعب تصنيفها أيديولوجياً إلا بالنسبة لأصحاب النظم العقائدية المغلقة. أحزابنا تتمايز فى السياسات التى تتبناها وبمن يقف وراءها ويقودها أكثر من تمايزها أيديولوجياً، وليس فى هذا بدعة. التكتلات والشلل داخل الأحزاب السياسية والتيارات السياسية والعقائدية ظاهرة معروفة فى ديمقراطيات كثيرة مستقرة وعريقة. التيارات الأيديولوجية فى بلادنا هى أكثر انقساماً لتكتلات وشلل من كل التكوينات الحزبية الناشئة. الفروق بين الحزب الناصرى وحزب الكرامة والتيار الشعبى هى من نوع الفروق بين التكتلات والشلل أكثر منها فروقاً أيديولوجية. لا أرى فرقاً أيديولوجياً مهماً بين أحزاب المصرى الديمقراطى الاجتماعى ومصر الحرية والدستور، أما الفروق بين التحالف الشعبى الاشتراكى والحزب الاشتراكى والشيوعى وحزب العمال والفلاحين فلا يمكن رؤيتها بالعين المجردة. أحزابنا اليسارية والليبرالية هى تكتلات وشلل، وتشبهها فى هذا أحزابنا الناشئة من نوعية المصريين الأحرار، ومستقبل وطن، والشعب الجمهورى، وحماة وطن. أصحاب الأيديولوجيات المغلقة ينتقدون الأحزاب الناشئة انطلاقاً من رؤاهم الذاتية لأنفسهم وللعالم، وهناك آخرون ينتقدونها لأسباب أخرى. بعض نقاد الأحزاب الناشئة لا يفعلون ذلك من منطلق الرغبة فى الإصلاح، ولكنهم يتخذون من أوجه النقص المعروفة عن الأحزاب ذريعة لإضعافها وللإبقاء على المساحة الفاصلة بين الدولة والمواطن صحراء مؤسسية جرداء يقف فيها الفرد ضعيفاً معدوم الحيلة بلا مؤسسات أو منظمات تتيح له طريقة منظمة للتعبير الجماعى عن الرأى وحماية المصالح، وهذا السبب وحده كفيل للاحتفاء بالأحزاب الناشئة.