فى الأيام الماضية سارت حملة على مواقع التواصل نادى بها بعض الشباب وهم يحملون ورقة مكتوبا عليها «أنا مواطن مصري... أنا رخيص». وكانت هذه الحملة لأن أجهزة الدولة قبضت على البعض منهم لأسباب مختلفة، ولكن أغلبها تحريضية فى محاولة للقفز على المشهد السياسى والاجتماعى من جديد كما حدث فى يناير 2011. ولكن الحقيقة ما أذهلنى ليس الأسباب، ولكن الاستخفاف بالوطن وبمصر، فهم لا يحملون أى انتماء للوطن لأنهم لا يعرفون من هى مصر. وفى كتاب «شخصية مصر» ل «جمال حمدان» وضح أن الشخصية المصرية تحمل سمات خاصة لتفرد التاريخ والجغرافيا فى مصر. والجغرافيا هى الأرض، وتراب بلادنا التى أرى أننا نحمل انتماء خاصا بها، لأن أجسادنا المادية تحمل جذور أجدادنا من هذه الأرض، حتى إن أغلب المصريين دائماً يقولون «حين نموت نريد أن ندفن فى مصر». وكأن هذا ميراثنا من أجدادنا الذين كانوا يشعرون بقدسية الموت فى ترابها، بل حتى الإسكندر الأكبر حين جاء إلى مصر ودخل معبد آمون فى الواحات وشعر بأنه يريد أن ينتمى إلى المصريين ركع على ركبتيه أمام الكاهن وقال له: أريد أن أكون ابن آمون. وتوجد وثيقة فى متحف لندن موثقة باسم الإسكندر ابن آمون، هى وصية منه أن يدفن فى مصر حين يموت، وقد حدث فعلاً هذا. فنحن نحمل الوطن ليس وجدانياً فقط، بل وفى كياننا المادى والجسدي. وإن كانت هذه هى الجغرافيا، فالتاريخ هو فخر المصريين وسط كل حضارات العالم، فإن كانت الأجساد من تراب الوطن، فالفكر والروح من تاريخنا، وجذورنا الروحية من روحانية مصر على مدى التاريخ، وهذا سر الارتباط الوجدانى القوى ببلادنا. ولا يظن أحد أن هذا حادث فى كل بلاد العالم، فأمريكا التى يرى البعض أنها حلم الوطن البديل تاريخها كله بدأ منذ عام 1783م بعد حرب الاستقلال. وإنجلترا بدأت حين دخلها الرومان وبنوا مدينة لندن عام 43م فقط وحكموها حتى القرن الخامس. وكما أننا نفتخر كما يقول بعض المؤرخين بأننا وطن يتكون من المتناقضات المتجانسة فعندنا الأسمر والأبيض دون تفريق، فجلس على عرش الفراعنة النوبى والجنوبى والصعيدى والبحيري. وفى مصر تتعايش الأديان المسلم والمسيحي، وقديماً كان اليهودى أيضاً. وهذا ما يجعل شخصية المصريين أكثر دفئاً وعاطفة عن باقى العالم. وقد يظن أحد أننى أقول هذا لأننى مصري، ولكن هذا ما يقوله عنا علماء المصريات الأجانب. فكتب عالم المصريات نيوبى: B.H. Newby إن شعب مصر شعب خاص، وقد جعلهم تاريخهم وجغرافيتهم يختلفون عن أى أمة. ويقول ول ديورانت: كان خليقاً بمصر أن تكون أسعد بلاد الأرض. ويقول هيرودوت: النيل ينبع معظمه من الهضبة الاستوائية ويجرى عبر أقوام وعشائر وأمم كثيرة ولم تظهر حضارة عندهم كما حدث فى مصر. ومصر لم تعرف عبودية البشر حتى على مستوى الروح، فلم نسمع أسماء للمصريين القدماء عبد رع أو عبد آمون، وحتى كلمة المعابد دخيلة على الفكر والتاريخ المصرى عند المؤرخين، بل كانت المعابد تسمى «بر- با» أى بيت الروح أو كانت تدعى «بر- نتر» أى البيت المقدس. بينما العالم تخلص من فكر عبودية البشر حديثا،ً فأول دولة ألغت العبودية كانت الدانمارك عام 1792م، ثم بعدها بريطانيا عام 1807م، وبعدها أمريكا عام 1866م. ويقول عالم المصريات اليهودى جيمس هنرى بريستد فى كتاب «فجر الضمير»: إن مصر هى جنة الخلود التى تأسست فيها معالم الحضارة الإنسانية وفيها نشأ الضمير. كل هذا ويأتى هؤلاء ويقولون «أنا مصري... أنا رخيص» هذا يعنى وجود خلل خطير فى فكر هؤلاء، ويجب علينا أن نبحث كيف حدث هذا فى شخصية هؤلاء الشباب، لأن هذا مؤشر خطير لبلادنا. فحين اجتاح نابليون أوروبا قرر أن يغزو روسيا، وكان وهو يمر نحو الأراضى الروسية شاهد فلاحاً روسياً منحنياً وبيده منجله يحرث أرضه بنشاط ولم يعر موكبه انتباها، فقال نابليون لحراسه وقادته ألا ترون هذا الفلاح الحقير لم ينظر إلى موكبى وبنات أوروبا يخرجن من غرف نومهن شوقاً لرؤيتي. فأوقف الموكب وأمر بإحضار الفلاح فساقوه مقيداً أمامه فقال له نابليون: لماذا لم توقف عملك وتنظر إلى موكبى وأنا سائر أمامك ألا تعرف من أنا؟ فرد الفلاح: لا يهمنى من تكون فقال نابليون: أنا نابليون الذى سأحتل بلادك، فرد الفلاح: أنت غاز حقير وأحقر من أن تحتل بلادى العظيمة. فاستشاط نابليون من كلامه وقال لجنوده: احموا سيخاً بالنار واكتبوا اسمى على ذراعه وشماً حتى يظل اسمى على جسده ولا يستطيع نزعه أبداً. وبالفعل فعل الجنود بالفلاح وبعد أن فرغوا من هذا، أمسك الفلاح بالمنجل الذى كان يستخدمه وقطع ذراعه التى حفروا عليها اسم نابليون وسط ذهول الجنود ونابليون وقال الفلاح: خذ اسمك معك فعار عليّ أن أحمل اسم غاز لبلادى على جسدي، فنظر نابليون إلى جنوده وقال: من هنا تبدأ الهزيمة. وبالفعل هزم نابليون فى روسيا بيد هؤلاء الذين أحبوا بلادهم. وبتلك الروح طرد أحمس والمصريون الهكسوس، وبها أيضاً طردنا الاحتلال الفرنسى والإنجليزى بعد صراع طويل لم يهدأ المصريون فيه حباً لبلادهم بل كانت تلك الروح المصرية هى السبب المباشر فى تحرير أغلب بلدان المنطقة من الاحتلال. وبنفس الروح كانت حرب الاستنزاف بعد هزيمة مصر فى حرب 1967 ولم يهدأوا حتى تم الانتصار فى أكتوبر 1973. وبنفس الروح قام المصريون بثورة 30 يونيو لإفشال مخطط شيطانى لهدم بلادنا والمنطقة وسط استغراب القوى الغربية التى أحكمت التخطيط منذ سنوات سابقة وكانت واثقة فى النتائج. وبنفس الروح أيضاً الجيش يحارب الإرهاب فى سيناء حتى الآن لتطهير بلادنا من تلك الأقدام الهمجية. فأنا المواطن المصرى الذى يحب بلاده حتى وإن كنا نحارب ونصارع ونتعب ونجاهد ولا نرتاح، لأنها بلادنا ولأننا نحن المصريين أصحاب حضارة لا تموت ولا تنتهي. لمزيد من مقالات القمص أنجيلوس جرجس;