هل يمكن لشعب ان يواجه عدوا جبارا ومسلحا بسلاح الاشمئزاز؟ فكل ما أعرفه عن أغرب أسلحة المصريين بعد هزيمة عرابى وحلول الاحتلال المسلح الانجليزى البغيض هو سلاح الدعاء الشهير «ياعزيز يا عزيز كبة تاخد الإنجليز» أما أن يواجه عدوا بسلاح «القرف» وعدم التعامل معه أو الشرب من أوانيه فهذا ماابتكره المصريون فى مواجهة عدوان الاغريق وانتصر عليه بعد 300 سنة، وراح الاغريق يتعلمون من الضحية العبادة وطلب الإسكندر أن ينادى به ابنا للإله آمون! والمناسبة أننى فى هذه الأيام التى تهب علينا رياح انتصار العاشر من رمضان، قررت الهجرة لساعات فى عمق تاريخ مصر مع كتاب «مصر فى القرآن والسنة» للدكتور أحمد عبدالحميد يوسف رحمه الله الذى صدر فى سلسلة اقرأ فى نوفمبر 1973، عرفت منه كيف واجه الشعب المصرى الطغاة عبر التاريخ بكل الأساليب، وتدرجت أسلحة انتصاره خلال الأربع آلاف سنة الماضية مابين القوة المسلحة المخططة والجيش الوطنى النظامي مرورا بسلاح الاشمئزاز قبل أن يصل إلى الدعاء بقلبه وهذا أضعف الإيمان. وسلاح الاشمئزاز استخدمه المصريون فى سنوات الضعف الشديد فى مواجهة العدوان الاغريقى، واعتبره هيرودوت نوعا من الاستسلام، وقد فات هيرودوت كما يقول الدكتور أحمد يوسف أن المصرى لم يستسلم للاحتلال اليونانى المسلح بل عبر رفضه بسلاح «المقاومة بالاشمئزاز» من استعمال من الآنية التى يصنعها المحتل أو يشرب منها. وهو ماتعلم منه غاندى فى الهند «بالمقاومة السلبية» وبفضل هذه المقاومة غزا دين المصريين وعقائدهم قلوب اليونان وأخذت حضارة الغالب من حضارة المغلوب! وعندما أوصى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يحرصوا على أهل مصر «فإنهم قوة وبلاغ إلى عدوكم بإذن الله» فقد اهترف هذا الوصف ان القوة تتمثل فيهم وليست هبة أو عارضة عليهم، فكان الإسلام هو الدين الوحيد الذى حفظت «سياسة» قادته الأوائل لهذا الشعب كبرياءه فتسامعت بهذا الدين أجيال وأجيال، فقانون المصريين كما وصفه الدكتور أحمد عبدالحميد «أن لا مبدل لإرادتهم بغير إرادتهم ولا يجدى معهم أبدا أن يقع الإكراه من أهل التجبر والطغيان».. فلم يستطع اخناتون 1336 ق م من قبل حملهم على التوحيد من حيث رفضوه، وأقام الهكسوس نيفا وقرنا من الزمان متسلطين مخربين وظل المصريون يتحينون الفرصة أيقاظا ساهرين، فلما آن الأوان لم يشفع لهم أنهم تمصروا وعبدوا الآلهة المصرية بل وقف الشعب وراء قائده أحمس، وخرج خروج العارم المنتقم. حتى أقبل الفاطميون يحملون مع الإسلام مذهبا فى التشيع لم يرضوه، واستمر الفاطميون فى سبيل نشر مذهبهم قرنين كاملين مارس فيها داعى الدعاة سيف المعز وذهبه واستخدمت الدعوة مواكب وأعياد واحتفالات ومآدب وكرامات ومعجزات، ثم زالت سلطتهم وذهبت دولتهم فما تركوا فى مصر من شيعى واحد، وإن بقى حب آل البيت مقيما فى النفوس راسخا فى القلوب، فأما أن يتعدى الحب والإجلال إلى ماليس له به علم فتلك حدود الصدوف ومواقع الوقوف، وإذا الأزهر الذى أسس لدولة المذهب الشيعى يتحول إلى مدرسة لتعليم الدين على مذهب أهل السنة والتابعين! ثم أقبل على مصر الترك وآل عثمان، وقد حملوا راية الإسلام على مذهب أهل السنة ولا خلاف ولا خصام، إلى أن جاء السلطان فحشر فنادى: أنا سلطان البرين وخاقان البحرين حامى حمى الحرمين، إلى أن اقبل العثمانلية أفواجا على المصريين يتفاخرون، فكل رفيع عندهم تركى وعثمانلى واسطمبولى وإسلامبولى، وماعداهم تعيس فلاح «خيرسيس» لكن المصرى بحسه المرهف وحكمته العريقة قد فرق بين دعوة الإسلام السمحة والتسلط المرفوض فى الحكم المفروض، كره التركى فى استعلائه لكنه حالفه على قوى البغى الأوروبى، ورغم أنهم اتخذوا من الأتراك نسبا وصهرا لكن ظل استعلاء التركى لا يثير إلا السخرية المريرة والضحك العريض، ولما زال السلطان التركى لم يترك فى المجتمع المصرى الا ما يتركه الماء الصافى فى الجلاميد، وقد شاء نابليون 1798م أن يوطئ لأحلامه فى مصر بالقوة حينا ثم بالعلم واللين، فلم تبق حملته الا ثلاث سنين، ثم احتل الكنانة جنود الانجليز ولم يجد المصريون ملاذ غير المقاومة والاستقواء بالقوى العزيز، وامتلأت مصر معهم بأجناس اليهود والفرنسيين والأرمن واليونانيين والطاليان والمالطيين، ومالت إليهم طبقة المتمصرين مقلدين ومتفرنجين، ورغم ذلك لم يهدأ صوت الوطنيين للاستقلال التام والحرية مطالبين، وامتلأت مصر بالآلاف من جنود الحلفاء فى الحرب العالمية الثانية حتى لا يكاد يخلو من المحتلين زقاق، ومع ذلك بقى كله زبدا لا يغوص أبدا إلى الأعماق !.. وبعد قيام ثورة يوليو تجدد الأمل لعودة مصر العرب للعروبة والمصريين، وبزوال حكم الأجنبى عاد لمصر ديدنها ودورها تحمل لواء الثقافة العربية والنهضة المصرية، وصارت لهجة مصر العربية وتلاوتها القرآنية قياسا ونموذجا للعرب المحدثين فى الاسلام كما كانت لقريش سيادتها قبل الإسلام. وقد بدا للبعض خلال بعض الحقب المظلمة كأن المصريين يخدعون حينما بدا لهم أنهم أيدوا السلطان الجائر ونصروه، إلا أنهم لم يدركوا سلاحا عجيبا من أسلحة المصرى فى الخذلان والتضليل عرفوه واتبعوه وهو سلاح السلبية الذى عبر عنه أحمد شوقى بقوله: لقد أنلتك أذنا غير واعية ورب مستمع والقلب فى صمم ومازالت فى الجولة مع الدكتور أحمد يوسف بقية، فما أحوجنا الآن لاستنهاض روح التحدى المصرية، لمواجهة قوى التآمر والطامعين، والذين يتربصون بأمنها من طلاب الثراء والنهازين، فقد كتب على هذا البلد الأمين ان تبقى فى رباط الى يوم الدين! لمزيد من مقالات أنور عبد اللطيف